تتفاقم الفجوة الغذائية بالمنطقة العربية رغم جهود دول المنطقة في تنويع إنتاجها الزراعي لتأمين احتياجات الغذاء، ومردّ ذلك تداعيات التغير المناخي والنمو الديمغرافي الهائل، ولتفادي الوقوع في هذه المعضلة وضمان الأمن الغذائي والتخلص من التبعية الغذائية للخارج، ينصح خبراء بضرورة إعادة النظر في طرق استخدام الأراضي والعادات الغذائية السائدة. ينطوي الحديث عن الأمن الغذائي العربي على مدى قدرة المجتمعات العربية على توفير احتياجاتها من الغذاء، وسد الفجوة بين المطلوب والمتاح سواء عبر الرفع من الإنتاج المحلي أو تأمين التمويل الضروري للاستيراد من العالم الخارجي، لسد الفجوة الغذائية وتحقيق الاكتفاء الذاتي. وفي الحالتين معا، أصبح مؤشر الأمن الغذائي في البلدان العربية رغم التحسن الملحوظ في أساسيات الإنتاج الزراعي محفوفا بتحديات ورهانات شتى تفرض مواجهة مشكلاته البنيوية والاهتمام به للرفع من إنتاجية العامل الزراعي الذي يتأرجح لحد الآن بين الانخفاض الشديد والارتفاع المتذبذب دون تحقيق أي توازن. وهو ما يجعل الأمن الغذائي لا يقل أهمية عن الأمن العسكري ومن أولويات الأمن الوطني والسيادي. والسيادة بهذا المعنى تدور دوما وأبدا في أي مجتمع حول السيادة الغذائية مما لا يسمح بتجاهل الأمن الغذائي من التحليل الاستراتيجي العربي، ويفرض عدم الوقوع في معادلة صعبة، يشكل البحث عن استقلالية القرار السياسي أحد طرفيها، وتأمين الغذاء الموجود في أيدي غيرها، طرفها الثاني. بذلت الدول العربية مجهودات جبارة في تنويع السلة الغذائية وتأمينها، كما ارتفع الناتج الزراعي في الوطن العربي من 75.2 مليار دولار في 1997 إلى 98 مليار دولار في 2007 وإلى140.75 مليار دولار في عام 2017. وتعمل بهذا القطاع أيد عاملة لا يستهان بها تصل إلى 29.76 مليون عامل من مجمل القوى العاملة البالغة 134.85 مليونا حاليا، وتساهم بنسبة 13 بالمئة من الإنتاج المحلي في الوطن العربي. واقع الغذاء العربي استطاعت البلدان العربية أن تقلص من قيمة الفجوة من السلع الغذائية الرئيسية من 39.3 مليار دولار لمتوسط الفترة (2009-2015) إلى نحو 33.6 مليار دولار في 2017، على الرغم من الزيادة السكانية، إلا أن هذا النجاح يمكن تثمينه عبر برامج رائدة كما فعلت الإمارات العربية المتحدة عبر برنامج “زرعي” القائم على اعتماد نظام الزراعة المائية “الهيدروبونيك” والحد من المزارع غير المجدية، أو حين أوقفت السعودية زراعة الأعلاف الخضراء، بعد أن أدركت خطورة استهلاك المياه غير المتجددة، ثم “مخطط المغرب الأخضر” القائم على تطوير فلاحة ذات إنتاجية عالية ومحاربة الفقر في الوسط القروي. لكن يمكن خفض قيمة العجز التجاري للمواد الغذائية بالاستغلال التكاملي والأمثل للأراضي الزراعية الصالحة في السودان، والعراق ومصر، والحد من تلوث وتملّح الأراضي الزراعية، والعمل بالزيادة في توسيع مساحة الأراضي الزراعية وتأمين المال اللازم للاستثمار والعودة من جديد للاهتمام بأنماط الإنتاج الزراعي عوض التوجه كليا نحو الاقتصاد الخدمي. ويحدد تقرير المنظمة العربية للتنمية الزراعية بأن أهم السلع التي تؤثر في الفجوة الغذائية هي مجموعة الحبوب بنسبة 50.93 بالمئة واللحوم الحمراء بـ10.81 بالمئة والألبان ومشتقاتها بـ9.46 بالمئة، والزيوت النباتية بـ8.73 بالمئة والسكر بـ7.38 بالمئة، ولحوم الدواجن بـ7.31 بالمئة، والبقوليات بـ3.48 بالمئة. هذا بالرغم من الثروة الحيوانية الهائلة التي يتمتع بها العالم العربي، والتي وصلت إلى 350.48 مليون رأس في 2017 توفر السودان لوحدها 30.87 بالمئة منها. ومع ذلك، لم توفر الدول العربية السعرات الحرارية المطلوبة من البروتين الحيواني، وذلك نظرا لضعف البنيات التحتية لتجارة الحيوانات الحية، بالإضافة إلى اعتماد المربين على النظم الرعوية التقليدية. أمّا في مجال الثروة السمكية، ففي منطقة المغرب العربي يمثل القطاع نحو 49.57 بالمئة من إجمالي الإنتاج السمكي بالمنطقة العربية عام 2017. يؤشر ذلك على إمكانية تبادل هائلة في فائض هذه البلدان من اللحوم والأسماك مثلا لتقليص العجز في بلدان أخرى. كما أن محدودية الأراضي الصالحة للزراعة يفرض تطوير التنمية الزراعية والاتجاه نحو اقتصاد اللقمة المضمونة في ظل استمرار معدلات نمو السكان في الارتفاع وكذلك أسعار المواد الغذائية الرئيسية، بحيث أن تفشي مظاهر انعدام الأمن الغذائي أو الافتقار إلى العملة الصعبة لشراء الأغذية من السوق الدولية لا يساهمان في الاستقرار الاجتماعي والسياسي. ويعد العالم العربي من أكبر مستوردي الحبوب في العالم، وتأتي مصر في الصدارة باستيرادها 11 مليون طن سنويا، ما يعادل 6.55 بالمئة من حجم المبادلات العالمية، وتصل مشترياتها من الذرة إلى 9 ملايين طن، أي أن البلدان العربية المتوسطية إن كان عدد سكانها لا يتجاوز 3 بالمئة من مجموع سكان العالم، فهي تستورد ما بين 15 و17 بالمئة من الحبوب عالميا. ومن الجدير بالذكر، أن الاحتياجات الزراعية في الدول العربية مغطاة حاليا بنسبة 40 بالمئة من الواردات، وهي اليوم تستورد 55 بالمئة من احتياجاتها الإجمالية من المواد الغذائية، بينما كانت الوردات في سنوات الستينات لا تتجاوز نسبة 10 بالمئة من احتياجاتها، وهو ما يجعل حجم الواردات الزراعية والسياسات الغذائية المتبعة تؤثر على ميزانيات الدول العربية ومستوياتها الحالية بنسب متفاوتة، الأمر الذي يعرقل نموها بشكل مستدام، ويعيق أحيانا نجاح سياساتها لمحاربة الفقر. وتهدد الفجوة الغذائية الحالية إن استمرت، بانخفاض كبير في نصيب الفرد من المواد الغذائية، فهي حاليا تصل في بلدان المغرب العربي إلى 51 بالمئة بالنسبة إلى 91 مليون نسمة، وهي في مصر بنسبة 40 بالمئة بالنسبة إلى 98 مليون نسمة. وتصل في دول الخليج إلى 50 بالمئة من مجموع 51 مليون نسمة، أما في باقي دول الشرق الأوسط فهي بنسبة 50 بالمئة بالنسبة لـ45 مليون نسمة. وهو ما يفسره الهبوط الحاد في مساهمة القطاع الزراعي المتواضعة، وعدم تحقيق الأمن الغذائي لحوالي 80 مليون عربي يعانون من نقص في التغذية، وهم يشكلون حوالي 25 بالمئة من سكان الوطن العربي. وكما هو ملاحظ، أن قيمة الصادرات (5 مليارات دولار) من الخضر والفواكه والأسماك، أقل بكثير من قيمة الواردات الغذائية العربية، وأن الجهود بحاجة إلى أدوار تكاملية في تجارة الزراعة البينية العربية من أجل تحقيق اكتفاء ذاتي في السلع الغذائية ما دامت المؤشرات الديمغرافية تشي بارتفاع عدد سكان العالم العربي في 2019 من 428.3 مليون نسمة إلى 519.6 مليون نسمة في 2030، وهو ما يعمق خريطة التبعية الغذائية الحالية التي تتحكم فيها حاليا روسيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وكندا. وتشكل ندرة المياه قضية بيئية رئيسية في معظم الدول العربية بسبب تدني كميات الأمطار، وتذبذبها من موسم لآخر، وارتفاع درجة الحرارة بما يؤثر سلبا على النظم الإيكولوجية إضافة إلى توسع مساحة رقعة التصحر وتدهور جودة الأراضي واختلال التنوع الحيوي، وبالتالي تقلص مساحة الأراضي المزروعة. ولا تتعدى نسبة الأراضي المزروعة في شبه الجزيرة العربية 5 بالمئة من الأراضي الصالحة للزراعة، وفي البلدان العربية الأخرى مثل مصر والعراق وسوريا التي كانت “سلة غذاء” أصبحت دولا مستوردة، فيما أسعار المواد الرئيسية كالقمح، والأرز والشعير والسكر والحليب ومشتقاته في ارتفاع. تحديات مستقبلية يكمن التحدي الأكبر في المستوى البنيوي أي في ضرورة التكيف مع التغيرات المناخية التي تهدد بتصحر 121 مليون هكتار من أصل 220 مليون هكتار، تستغل منها فعليا للزراعة فقط 72.36 مليون هكتار في2017، حيث يزرع منها بالقطاع المطري 69.5 مليون هكتار، بينما بالقطاع المروي نحو 13.57 مليون هكتار، فيما لا يتم استغلال نحو 27.9 مليون هكتار في كل المواسم وبانتظام. ومن ثم، من الضروري إيجاد حلول واقعية يمكن أن تحقق التوازنات بين الإنتاج والاستهلاك والمبادلات. إذ لن يكون هناك تنمية مستدامة من دون القضاء على الفقر والجوع. وتتجلى هذه الأهمية القصوى في كون أنه في المغرب تشتغل 40 بالمئة من الأيدي العاملة النشطة في الزراعة. وفي نفس الوقت، فإن 37 بالمئة من عائدات العائلات تصرف في توفير الغذاء، وهو نفس الأمر في مصر والأردن، ويصل الرقم إلى 54 بالمئة في الجزائر، بينما لا يتعدى 7 بالمئة في الولايات المتحدة الأميركية و15 بالمئة في فرنسا. وهو ما يجعل أغلب البلدان العربية تابعة للسوق الدولية ورهن التبعية للخارج في ضمان أمنها الغذائي، فهي بحسب وزارة الزراعة الأميركية من بين أهم المستوردين في العالم، ويكفي أن مصر والجزائر تحتلان المرتبتين الأولى والثالثة عالميا. أضف إلى ذلك، لا يمكن الاستمرار في زراعة غير مناسبة للتربة، وتستهلك كمية مياه هائلة في بلدان وصلت حالة حرج وشح في مواردها المائية المتاحة، كما يتم حاليا من زراعة أشجار الموز والتفاح في بلدان تصنف في خانة الفقر المائي. وذلك عوض تشجيع زراعة شتوية، هي محل طلب مستمر عوض الاستمرار في زراعة صيفية غير مجدية. تفرض حقائق تجارة المنتجات الزراعية في ميزان التجارة العالمية، والتي شهدت ارتفاعا ملحوظا في الألفية الثالثة مقارنة بالوقود ومنتجات التعدين والسلع المصنعة، العودة للاهتمام بالقطاع الزراعي بعد أن تم إهماله لصالح القطاع الخدماتي. وازدادت تجارة المنتجات الزراعية في العالم بأكثر من ثلاثة أضعاف من حيث القيمة، وفي المتوسط سجلت نموا سنويا بنسبة 6 بالمئة، فازدادت قيمتها من 570 مليار دولار أميركي إلى 1.6 تريليون دولار أميركي في عام 2016. وهو ما يفرض تكاتف الدول العربية في النهوض من جديد بالقطاع الزراعي وتحقيق الريادة فيه. ومن المرجح في أفق عام 2030 أن يزداد الضغط الديمغرافي بفعل التحولات المناخية وتغير الأنماط الغذائية التي ستحد دون شك من الإمكانيات الزراعية المتاحة في المنطقة، مما يفرض بعض الخيارات العاجلة لتحسين الواقع الغذائي. ووصل الفاقد والهدر من الإنتاج العربي من سلة مجموعات الغذاء الإجمالية إلى 77.21 مليون طن، تمثل ما نسبته 34.75 بالمئة من إجمالي الإنتاج من هذه السلع، والبالغ نحو 222.16 مليون طن في عام 2017، لاسيما في الخضر والفواكه والحبوب على التوالي. وهو ما يكفي حاليا لمعالجة آفة الجوع في العالم العربي. أضف لذلك، لا بد من إعادة إحياء القيم التضامنية بإنشاء بنوك طعام للاستفادة من الإنتاج الغذائي المهدور، وضمان توزيع الطعام الفائض كما يقع في المملكة العربية السعودية والمغرب أثناء الحفلات والأعراس والمناسبات الخاصة. وتفرض التغيرات المناخية في المنطقة العربية تغيير الأنماط السائدة في الزراعة العربية، وبالتالي ضرورة تمويل البحث والتطوير الزراعي بإنشاء مراكز تعمل على معالجة قلة الموارد المائية المحدودة وضيق مساحة الأراضي الزراعية، ومكافحة التصحر والتعرية، وتقديم استشارات فنية لتطوير “الصناعات الزراعية” و”الصناعات الغذائية” في المناطق الجافة، والتخفيف من حدة آثار التغيرات المناخية. حلول وبدائل بالإمكان تحويل النظم الزراعية والغذائية على نحو مستدام بفضل تكوين أجيال جديدة من المهندسين مختصين في إنتاج البذور وتهجينها وتطوير إنتاج الشتائل الملائمة للبيئات الجافة أو شبه الجافة. وذلك من أجل بلوغ تحسن في سلة المحاصيل المدفوعة بالتقدم التكنولوجي، وحتى لا يؤدي ارتفاع الحرارة إلى تسريع معدل التشبع الغذائي، وتكاثر الطحالب الضارة، وانتشار الأمراض البكتيرية في التربة أو المستزرعات السمكية حفاظا على سلامة الأغذية وصحة الحيوان والنبات. وتجدر الإشارة أيضا إلى ضرورة الموازنة بين الأنماط الغذائية السائدة في الغرب القائمة على المواد البروتينية بامتياز، والأنماط الغذائية العربية القائمة على الحبوب. وتشير أرقام احتياجات سكان الوطن العربي من السعرات الحرارية، والبروتين، والدهون بناء على متوسط الفرد من تلك المكونات، بأنها بلغت 428.6 مليار كالوري (حُريرة)، و12 مليون طن بروتين، و12.3 مليون طن دهون، وإذا تم خصم ما وفّره الإنتاج العربي المحلي من مختلف الحاجيات الغذائية، يقدر العجز بنحو 161.2 مليار كالوري، و3.2 ملايين طن بروتين، و7،1 ملايين طن دهون في 2017. يفرض ذلك الاهتمام بما يمكن أن توفره سلة الغذاء العربية في معالجة هذا الخلل بناء على قدرات البلدان العربية الذاتية وتحويل فوائضها إلى البلدان التي تعاني من عجز فيها، بتشجيع التجارة الزراعية البينية التفضيلية. بدورها، تلعب المرأة الريفية دورا كبيرا في الاقتصاد الزراعي، لذلك لا بد من ضرورة تنمية الموارد الاقتصادية للمرأة الريفية وتمكينها من مشاركة كاملة في الميدان الزراعي باستقلالية أو بإدماجها في جمعيات مزارعين، ثم توفير استفادتها من تسهيلات الائتمان والخدمات المالية وحق اتخاذ القرارات المناسبة في الاقتصاد الأسري الزراعي. وعليه، لا بد من تبني سياسات زراعية تشاركية تستحضر في خططها الوطنية والتعاونية مستلزمات التقنية الحديثة لحماية التربة والنبات، والمعادلة بين قيمة الموارد الغذائية وكمية الاحتياجات المائية المصاحبة لها، كما العمل على توفير مخزون استراتيجي من الغذاء لحالات الطوارئ، وبرامج حماية اجتماعية للفئات السكانية الفقيرة وضعيفة الدخل.
مشاركة :