يحاول إصلاح ما أفسده الدهر

  • 10/11/2019
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

يوسف أبو لوز في مقهى النيروز يبحث عن محمد القيسي بشعره الطويل «.. حتى رام الله..»، فقد كان يجلس هنا ذات ظهيرة تموزية وأمامه كأس ماء بارد ووردة صفراء.. قال للنادل الكهل الذي هاجر من لبنان في الستينات، واستقر في عمّان وقد هرب بجلده وكتبه والقليل من الحلم... هل مر الشاعر اليوم؟.. نعم.. مر ومع أحزانه وقصائده الحارة. ثم غادر. ولم يأت منذ ذلك اليوم.. تُرى أيكون قد عاد إلى بلاده؟ لا أعرف. صحيح أن البلاد طلبت أهلها، ولكن لا أدري فيما إذا كانت قد طلبت الشاعر. فكل مكان عزيز. آمن وكريم هو بلاد للشاعر.وفي المقهى أيضاً يسأل عن عبد اللطيف عقل، وحبيب الزيودي، وأحمد المصلح، ومحمد طملية، ومؤيد العتيلي، وإدوارد حداد، ومؤنس الرزّاز، وخيري منصور، وجمال أبوحمدان، وسالم النحاس، وبدر عبد الحق، وزهرة عمر،.. ولا أحد. لا أحد. يقول النادل المكتهل. كلهم كانوا ذات يوم هنا أو في أماكن أخرى. ولكن لا أحد. ثمة على الطاولات والمقاعد نقوش ورسوم وخطوط مثل خطوط باطن اليد. خشب الطاولات مازال يحتفظ برائحة كتاباتهم وقصائدهم ونثرهم الأزرق، وأغنياتهم المملوءة بالفرح والحنين.كالعادة، يأخذ نفسه من أمام المسجد الحسيني في قلب عمّان، وقبل أن يأخذ فنجان قهوة في مقهى «السنترال» يدلف وحيداً وغريباً إلى سوق شعبية مقابل المسجد:.. يبحث عن نظارة للقراءة، ويتأمل معلقات الخرز ومسابح الكهرمان وأساور الفضة وخواتم مصنوعة من الأصداف، وأشياء أخرى معلقة مثل القصائد في السوق الشعبية الضيقة، وفي الجهة المقابلة، يحلو له وحيداً مرة ثانية وغريباً في بلاده، أن يتجول في سوق العطارين.. يتذكر عبارة يحبها.. «.. لم يصلح العطار ما أفسده الدهر»، ولأمر ما وهو يتجول في سوق العطارين يتذكر ابن عربي، والتوحيدي، والسهرودي،.. ترى هل كان هؤلاء المتصوفة عطارين؟؟.. ثم يترك الإجابة معلقة في هواء روائح العطارين:.. الزنجبيل، وماء الورد، والبابونج، والميرمية، ثم في الجوار سوق العطور فلا يميز منه سوى دهن العود. وفي الممرات الضيقة يحلو للباعة وأكثرهم في الخمسين والستين من أعمارهم أن يضعوا ناراً في رؤوس أعواد البخور.. والدخان دليلاً إلى العطار.يخرج مبللاً تماماً بما أصلحه العطار وبائع دهن العود، والآن، باتجاه محل صغير للحلوى. ولكن لا طعم للحلوى. لا طعم لهذا الشارع الصغير الذي كان كبيراً بالشعراء والمولعين بإطلاق شعرهم على أكتافهم ومن أكتافهم أيضاً تتدلى حقائب الجلد. كأن لا تكتمل صورة الشاعر إلا وتتدلى حقيبة من كتفه.. ولن يعرف القيسي بلا حقيبة، لن يعرف خالد أبوخالد لا حقيبة. ولكن في حياته كلها لم ير محمود درويش ومعه حقيبة. عبد الوهاب البياتي لم تتدلَّ أبداً من كتفه حقيبة. كان يجلس في مقهى «الهورس شو» أو في مقهى الياسمين في عز أناقته. طقم رمادي وربطة عنق كلاسيكية، وتصفيفة شعر كلاسيكية أيضاً، ودائماً ظهره إلى جدار.هل مرّ عليك عبد الوهاب البياتي؟.. الشاعر العراقي «أبوعلي» الذي كان دائماً يخبئ صورة عائشة عند جهة قلبه؟!.. يجيب النادل. ابحث عنه في دمشق بالقرب من قبر ابن عربي، طيّب. هل مر عليك شاعر من كركوك اسمه جان دمّو.. لقد مات، ولكن بعيداً بعيداً عن عمّان ومن كركوك. دفن هناك هو وقميصه في «ملبورن».حسناً ليجرّب المقاهي الأخرى. ها هو يذهب إليها ويسأل النُدل الشاب منهم والكهل. ولا أحد.. لا أحد.يعود إلى بيته وحيداً.. منهكاً وقد تحوّل إلى عطّار من أحد عطاري السوق يحاول أن يصلح ما أفسده الدهر... yabolouz@gmail.com

مشاركة :