تفرض التلاعبات الدولية والإقليمية في الصراع السوري ذاتها مجددا، بحيث أضحت قضية السوريين أو أغلبيتهم، المتعلقة بالتغيير السياسي، عبر استعادة النظام الجمهوري، من الحكم الوراثي، وتمكينهم من حقوقهم في الحرية والمواطنة والتحول نحو الديمقراطية، في الهامش، وهو الأمر الذي يجري منذ سنوات. هكذا، فبعد مكالمة هاتفية بين الرئيسين الأميركي والتركي، أعلن الرئيس دونالد ترامب، من جديد، اعتزامه الانسحاب من الصراع السوري، المرهق والمكلف وغير المفهوم، بالنسبة إليه، مقدما في ذلك إيحاءات واضحة لنظيره التركي رجب طيب أردوغان، تتضمن إمكانية التخلّي عن دعم “قوات سوريا الديمقراطية”، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (السوري)، الرديفة لحزب العمال الكردستاني (التركي)، والاستعداد لإخلاء بعض المناطق من شمالي سوريا من القوات الأميركية، بما يسمح بتغلغل قوات عسكرية تركية في تلك المناطق، لفرض منطقة آمنة، أو “ممر السلام”. وهو ما كانت تركيا تطلبه من الإدارة الأميركية بإلحاح منذ عامين. بيد أن تلك اللحظة التاريخية التي كانت تتحيّنها وتتحمّس لها تركيا منذ زمن، سرعان ما تكشفت عن إيحاءات غير يقينية، إذ أن الرئيس الأميركي ذاته عاد بعد ساعات من تلك المكالمة الهاتفية إلى الحديث عن عدم تخلّي الولايات المتحدة عن قوات “قسد”، وأنها مع تفهّمها الاعتبارات أو المخاوف الأمنية لتركيا، إلا أن على تلك الأخيرة أن تلتزم بحدود معينة في دخولها الأراضي السورية. المشكلة في هذا الأمر لا تكمن في الموقف أو اللاموقف الأميركي مما يجري في سوريا منذ سنوات، علما أنه موقف ينطوي، وإن بشكل مبطن، على الحفاظ على استمرارية الصراع في ذلك البلد، وعلى توريط مختلف القوى الدولية والإقليمية فيه، ووضعها في مواجهة بعضها، لإرهاقها واستنزافها، لاسيما أن الولايات المتحدة لا تتأثّر مما يجري في ذلك البلد، بل إنها تغدو في موقع المراقب في انتهاج واضح لنظرية زبيغنيو بريجنسكي (المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي)، والتي مفادها تأكيد واقع الولايات المتحدة كدولة عظمة، وكموزّع للتناقضات في العالم (خاصة في كتابه بين عصرين). علما أن الولايات المتحدة لا تشتغل في سوريا وفق مبدأ إدارة الصراع وإنما وفق مبدأ المستثمر في الصراعات الدائرة. ويتضح من كل ذلك أن الولايات المتحدة لا يهمها هنا إلا الحفاظ على حليفتها إسرائيل، وضمان أمنها واستقرارها وتفوقها، وبدرجة أقل ضمان أمن النفط، من المنابع إلى الممرات، وهو ما يفسر كل المواقف التي تتخّذها في الشرق الأوسط؛ في سوريا وفي غيرها. الطرف الأهم الآخر في المعادلة المطروحة هو تركيا، التي أضحت تركز بشكل محموم على المخاطر المتأتية من إمكان خلق كيان كردي مستقل في سوريا، حتى إنها وقفت ضد خلق مثل ذلك الكيان في العراق، رغم العلاقة المتميزة التي تربطها بزعامة كردستان العراق (مسعود بارزاني تحديدا). ومشكلة تركيا هنا أنها باتت تتحمل تداعيات الصراع السوري أكثر من أي دولة أخرى، وربما بما لا يقل عن إيران؛ شريكة النظام سياسيا وعسكريا، فضلا أنها هي التي تستقبل موجات اللاجئين، ويقيم فيها بين مليونين إلى ثلاثة ملايين سوري. بيد أن مشكلة تركيا هنا تكمن في وجود مسألة كردية داخلها، كما تكمن في الاستقطاب الداخلي فيها بين حزبي العدالة والتنمية من جهة، والأحزاب المعارضة الأخرى من جهة ثانية، وهو ما توضّح في انتخابات بلدية إسطنبول. فضلا عن كل ذلك، وإضافة إلى المصاعب الاقتصادية، فإن تركيا باتت في مواجهة مناخات دولية وإقليمية صعبة. فثمة مشكلة قبرص والتنقيب عن النفط والغاز، وثمة مشكلة العلاقة مع أوروبا، والتوتر الحاصل في علاقاتها مع الولايات المتحدة، ناهيك عن أنها باتت تتموضع في مكانة دقيقة وحرجة، بين كونها في تحالف أستانة الثلاثي (مع شريكي النظام روسيا وإيران)، وبين كونها دولة حليفة للغرب وعضوا رئيسا في حلف الناتو. المشكلة هنا، أيضا، أن تركيا تدرك أن أي تورّط في المسألة السورية، دون غطاء أميركي أو روسي، قد يرتد عليها بطريقة معاكسة، ولعل ذلك تحديدا يفسّر التردد التركي في التعاطي مع الإيحاءات الأميركية، بتسهيل دخول تركيا إلى شمالي سوريا. وربما أنها في ذلك تنتظر توضيحات من الإدارة الأميركية، ربما تتم في لقاء القمة الثنائية المرتقب في واشنطن أواسط شهر نوفمبر القادم. على الصعيد السوري، لاشك أن قوات “قسد” لعبت دورا كبيرا في وصول الوضع إلى هذه الدرجة، إذ أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (السوري) لم يوفر الفرصة لإعلان عدائه لتركيا، وتأكيد ارتباطه بحزب العمال التركي (الكردي)، كما لم يوفر الفرصة لإظهار أنه الوجه الآخر لفصائل المعارضة “الإسلامية” المسلحة، بحيث أن الطرفين شكّلا انشقاقا عن الجسم الوطني السوري، وشكّلا صدعا في جسم الثورة السورية، وتشققا في إجماعات السوريين. وفي الحقيقة فإن الأوضاع الراهنة، بما في ذلك الاتجاه نحو الحرب، ليست في صالح السوريين، لا أكرادا ولا عربا، وبالتأكيد ليس من مصلحة تركيا الدخول في تلك المغامرة، التي ستكون لها عواقبها على الجميع، ولن يستفيد منها إلا النظام وشريكيه أي؛ روسيا وإيران.
مشاركة :