اهتم العالم اللغوي والنحوي الجليل تمام حسان بالدراسات اللغوية، وظل طوال عمره في خدمة تلك الدراسات المثمرة والناجحة، وفيها لمس الواقع واهتم بالعصر الحديث وما يجب أن يمليه عليه من تحديث تلك الدراسات والحث عليها.حسان، الذي تحل اليوم ذكرى وفاته، حيث رحل في الحادي عشر من أكتوبر عام 2011، أصدر العديد من المؤلفات المهتمة بالحقل اللغوي، ومن بين هذه الإصدارات كتاب "مناهج البحث في اللغة"، الذي تحدث خلاله عن أهمية اللغة كونها -وفق الكتاب- أخطر الظواهر الاجتماعية الإنسانية على الإطلاق، وأن كل تقدم اجتماعي كُتب له التمام كان بفضل اللغة، إلى جانب كونها وعاء التجارب الشعبية والعادات والتقاليد والعقائد التي يتوارثها الأجيال، فهي رابطة أقوى من أي رابطة اجتماعية.وأكد "حسان" على دور اللغة في السيطرة على أفكار الناس، ضاربًا المثل بالخطب التي تحدث في الانتخابات النيابية، حيث يستولى النائب على تأييد الناس من خلال خطبه، كما أن الناس تحب أن تذهب للمساجد الذي يؤمها فيها إمام يجيد اللغة ويبرع فيها، ويبيع التاجر بضاعته عندما ينجح في إقناع الناس بفوائد صفقته عن طريق اللغة أيضا.وعن دور المستعمر تجاه لغتنا أوضح "حسان"، أن الأوربيين فطنوا إلى أهمية اللغة فأنشأوا مدارس في البلاد الأجنبية، تعلم لغاتهم، فكانت اللغة سلاحًا في السيطرة على تلك الشعوب واستعمارها، وكانت اللغة قنطرة عبرت عليها المسيحية من عقل الأوربي إلى قلب الأفريقي والأسيوي، كما كان يسير الإسلام جنبا إلى جنب مع انتشار اللغة العربية.لقد حاربنا المستعمر طويلا بأن جعلنا نحتقر اللغة العربية فأفقدونا ثقتنا بنفسنا وتاريخنا ومستقبلنا، وأصبح الكلام بلغتنا موضع تندر، وتكلمت الأسرات العريقة بإحدي اللغات الأجنبية.. وولغ الناس في سمعة مدرس اللغة العربية كما يعتدون على سمعة كل طائفة قليلة الدخل.ويدرك "حسان" أن اللغة العربية تعيش أزمة كبيرة بسبب سيطرة المناهج القديمة على أساليب الدراسة إلى جانب صعوبتها وتعقيدها، وأشار إلى أن الدراسات اللغوية قد منيت مدة طويلة بسمعة "الصعوبة" وأحيانا بسمعة "التعقيد" يشهد بذلك تلاميذ المدارس، وغير المتخصصين في اللغة، والمستشرقين الأجانب.ويُرجع العالم الكبير سبب ذلك إلى عدم التجديد في مناهجها منذ أن ورثناها عن آبائنا، فقد ورثنا خلط في التفكير يتمثل في: الاعتقاد بأن الأوائل قد أتوا بما لا يمكن أن يزيد عليه الأواخر، وضيق النظرة للغة العربية واعتبارها مرتبطة بالقرآن الكريم احترامًا أو امتهانًا، وأدى ذلك إلى قطع الصلة بينها وبين اللهجات العربية الأخرى القديمة والمعاصرة، وإلى تحريم الترخيص بالإضافة إلى محصولها، حتى إن بعضهم يلزم ما جاء في المعاجم فحسب.لم يعدم العالم العربي في عصر من العصور من يدعو إلى التجديد، أوله كان على يد ابن مضاء الأندلس الظاهري المذهب، وأكثره في العصر الحديث حتى ظهرت الدعوة إلى التجديد في الأزهر وهو من أكثر الهيئات الثقافية محافظة على القديم.ويتابع، تبدو الحاجة ملحة إلى بناء الدراسات اللغوية على منهج له فلسفته وتجاربه في إرضاء للروح العلمية الخالصة من جهة، وتوفيرا لجهود عشاق اللغة العربية من جهة أخرى، فقاريء اللغة العربية في الوقت الحاضر يجد نفسه أمام أمشاج من الأفكار غير المتناسبة، يأتي بعضها من المنطق وبعضها من الميتافيزيقا، وبعض ثالث من الأساطير، ورابع من الدين وهلم جرا، ومن هنا كانت الحاجة ملحة لتخليص اللغة من هذه العدوى.وطالب "حسان" مجمع اللغة أن يمنح هذه الدراسات الكثير من العناية، بعدما بدأت الجامعات الاحتفاء به، كما طالب أن تنشأ معامل للدراسات اللغوية في كلية دار العلوم وغيرها، وفي دار العلوم نواة لهذا المعمل دون أن يكلفها ذلك كثيرا من المال.
مشاركة :