الاجتهاد في النص الديني: مقاربة لا مطابقة

  • 5/6/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

قال لي أحدهم: ماذا تعني بالخطاب الديني؟ قلت: الخطاب الديني هو "كل" كلام بشري (عن) الدين معزوًّا إليه، استدلالاً وشرحًا واستنباطًا وفقهًا وتفسيرًا وتأويلاً ووعظًا واعتقادًا.. إلخ. مما لم يقع عليه "الإجماع" الوارد "قطعا" عن الصحابة الكرام. هذه المساحة التي يمكن لمن يجتهد أن يتكلم فيها (بالدليل)، أو ما يظنه دليلاً؛ لأن مجال البحث أصلاً هو خارج القطعي من الكتاب والسنة، وخارج الإجماع، أي إنه مما يجوز فيه الاجتهاد مطلقًا أو جزئيًا بالدليل، وإذن فحتى هذا المقال -وغيره- الذي أتناول به الخطاب الديني ينتمي إلى الخطاب الديني كذلك. من القواعد المقررة المتفق عليها عند الأصوليين: "لا اجتهاد مع النص"، فما المقصود بالنص هنا؟ هل المقصود به النص مطلقًا آيةً وحديثًا؟ أم المقصود به معنى آخر؟ الحق أنه ليس المقصود بهذه القاعدة "المعنى العام" للنص، فكل آية هي نص من حيث هي كلام منتهٍ إلى قائله عز وجل، وكل حديث هو نص من حيث هو مرفوع إلى قائله. وهو النص بالمعنى اللغوي العام، ومنه قول طرفة بن العبد: ونص الحديث إلى أهله.. فإن الوثيقة في نصّه.. أي ارفعه إلى أهله وأنهِه إليهم فإن هذا من الأمانة والوثوق. وهذا المعنى العام ليس هو المقصود في قاعدة الأصوليين، وإلا فبماذا كان اجتهاد العلماء عبر العصور إن لم يكن هو في النصوص الشرعية بهذا المعنى؟ إن أكثر النصوص الشرعية تقبل معان متعددة يمكن استنباطها، ولهذا اختلف العلماء، وهذا من رحمة الله بالأمة. ودعوني أقدّم مثالاً على هذا يخص أهم عبادة من العبادات، الصلاة، ومفتاحها الطهور، يقول سبحانه وتعالى: {فتيمموا صعيدًا طيبًا}، كلمة "صعيد" هنا لها أكثر من معنى في اللغة، فهي تعني (وجه الأرض) ولهذا أجاز بعض الفقهاء التيمم على الرخام، والصخر، والحشيش، ويرون التيمم بها صحيحًا وتجزئ به الصلاة، لكن فقهاء آخرين خصّوا الصعيد بالتراب ذي الغبار، فقط لا غير، وعليه؛ فهم يرون أن من تيمم بغيره فهو لم يتيمم، وإن صلى فصلاته باطلة. فهل يحق لصاحب هذا الرأي أن يقول لمن تيمم على صخرة مثلاً: أنت رجل صلاتك باطلة، فاسق، مضيع للطهارة والصلاة، وإذا أعلنت مذهبك فأنت تريد إفساد دين الناس وصلاتهم؟ هذا بالضبط شبيه بمن يقول لمن يقول بكشف وجه المرأة ويعلنه: إنك تريد الفجور لنساء الأمة، وإفساد المجتمع! لكنْ هناك نص لا يمكن الاجتهاد معه وفيه، ما هو؟ إنه النص بالمعنى "الاصطلاحي"، ويعنون به: ما لا يقبل إلا تفسيرًا واحدًا، وهذا هو الأقلّ من النصوص الشرعية فلا مجال للاجتهاد في فهمه، لأنه واضح كل الوضوح، ولا تقبل لغتُه إلا احتمالاً واحدًا في التفسير. كقوله تعالى مثلاً: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة}، فليس يقبل هذا النص إلا تفسيرًا واحدًا، ومن هنا يقال: هذا نصّ في هذه المسألة. لكن، هل هناك أي مساحة للاجتهاد في "النص القطعي"؟ الجواب: أما في فهمه فلا، ولكن الاجتهاد يكمن في "تطبيقه" على الواقعة والنازلة والحادثة المعيّنة. فمثلاً: قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، قطعي الدلالة على قطع يد السارق والسارقة، لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يطبقه على بعض السارقين في عام الرمادة؛ لأنه عام اضطرار، وعدم تطبيقه عليهم هو "اجتهاد منه"، بناء على تقديره لمعنى وحالة "الاضطرار" التي كانت سائدة وقتها، وفي أمر تطبيق القطعي على الواقع، مجال للاجتهاد يجوز فيه التصويب والتخطئة. بالضبط كما يحكم القاضي على متهم بالسرقة بالعقوبة بسبب ما ظهر لديه من الأدلة التي تدينه، وإن كان ربما يكون هو بريئًا في نفس الأمر. لكن هذا ما هو مطلوب من القاضي بما رأى من الأدلة. وقضاؤه اجتهاد يجوز فيه الصواب والخطأ، لأن "تطبيق" القطعي ليس قطعيًا. من المشكلات في مسألة الاجتهاد "وهم المطابقة"، بحيث يتوهم قارئ النص (المحتمل للمعاني) أن فهمه هو عين النص، وكل فهم سواه باطل. إن المطابقة حقًا، مطابقة الفهم للنص؛ لا تكون إلا في قطعيات الدلالة، أما النصوص التي تحتمل أكثر من معنى فلا يحق لأحد أن يزعم أنه أصاب في فهمها كبد الحقيقة، وكل فهم لها يستنبطه عالم أو طالب علم فهو (ظن) و(رأي) لا يجوز أن يقطع به؛ لأنه حين يقطع بفهمه فكأنه يقول: إن فهمي هو عين حكم الله في هذه المسألة، وهو اجتراء على القول على الله بغير علم، بل هو ربما أخطر من الشرك، يقول الله تعالى: {قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم، والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}. ومن يلاحظ بعض المتعصبين يجد أنهم يرتكبون كل تلك المحرمات القطعية الواردة في الآية الكريمة السابقة في الهجوم على من خالفهم في مسألة اجتهادية! أختم بنص مهم للإمام الشافعي يتكلم في بعض ما "شذ" به الفقهاء، ويعلمنا كيف نتعامل مع هذا الشذوذ في نكاح المتعة مثلاً، وبعض الصور التي ينطبق عليها أنها ربا، وغير ذلك؛ فيقول في كتابه (الأمّ): "والمستحل لنكاح المتعة والمفتي بها والعامل بها ممن لا ترد شهادته، وكذلك لو كان موسرًا فنكح أمَة مستحلًّا لنكاحها مسلمة أو مشركة، لأنا نجد من مفتي الناس وأعلامهم من يستحل هذا، وهكذا المستحل الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين يدًا بيد والعامل به لأنّا نجد من أعلام الناس من يفتي به ويعمل به ويرويه... فهذا كله عندنا مكروه محرم وإن خالفنا الناس فيه فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم ونقول لهم إنكم حللتم ما حرم الله وأخطأتم، لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم، وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز وجل". فهل هذه الأقوال التي ذكرها الشافعيّ أخفّ وطأة وشذوذًا مما يجري به النزاع اليوم، ككشف المرأة وجهها مثلاً وغيره مما اختلف فيه الفقهاء؟ اللهم لا!

مشاركة :