الحرب على خاتمي أو الحرب على الإصلاح - محمد علي المحمود

  • 5/7/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لقد عزم التيار المحافظ الذي يمتلك القوة المؤسساتية (من المرشد إلى أدنى المنتفعين من رجال "الأمن الديني") أن يقف بالمرصاد للتيار الإصلاحي؛ مهما كان الثمن. وقد ظهرت بوادر عنف المواجهة تطفو على السطح؛ حتى تأكد لخاتمي أن المتطرفين من التيار المحافظ مستعدون لإشعالها حربا حقيقية لمواجهة فكرة الإصلاح؛ فضلا عن مواجهة كوادر الإصلاح الفاعلة في الواقع العملي. فأعمدة النظام باتوا يدركون أن الأفكار التحررية/ الليبرالية خطر عليهم، وقد سعوا – كخطوة أولى - إلى إدانتها بكل السبل؛ حتى إن قائد الحرس الثوري رحيم صفوي أعلن – محرّضا - أن الليبرالية الثقافية تعمل لتشويه قيم الثورة الإسلامية.(مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص192). وهو يعني بالليبرالية الثقافية: الأصوات التحررية التي تُنادي بالإصلاح السياسي. على الرغم من تصميم خاتمي على المضي في مسيرته الإصلاحية إلا أنه لم يكن غريبا على النظام الثيوقراطي الذي يحكم من خلاله. إنه يدرك حدود ما يستطيعه، كما يدرك إلى أي مدى يمكن أن تصل ردة فعل المتطرفين من داخل النظام ومن خارجه. ولهذا ظهر وكأنه يحسب خطواته الإصلاحية بحذر، محاولا مجاملة الفاعلين في النظام، وعلى رأسهم المرشد ولا شك أن تعميم التهمة على هذا النحو، من قِبل قائد عسكري، لا تعني مجرد عرض رؤية خاصة، بل هي إعلان للحرب على المسيرة الإصلاحية بوصفها خطرا على الثورة الإسلامية، ومن ثم فهي – وفق الزعم الأصولي- خطر على الإسلام. وبعيدا عن التفاصيل، كان الصراع بين المحافظين والإصلاحيين يدور – كما يقول طلال عتريسي – حول ثلاث مسائل أساسية: حجم الحريات، موقع المرشد، أولوية الثقافة والعلاقة مع أمريكا. (الجمهورية الصعبة، طلال عتريسي ص 36). وبالنظر إلى هذه المسائل الثلاث التي حددها عتريسي، نجد أنها تدور في محور واحد، إذ كلها تتعلق باختلاف وجهتي نظر تتقابلان ضديا في مسائل الحرية تحديدا: الأولى: تنتهج الانغلاق الثقافي والسياسي، وتأليه المرشد، وكبت الحريات، وكل منها يؤدي إلى الآخر، وكل منها يدعم الآخر ويقويه. الثانية: تنتهج الانفتاح الثقافي والسياسي، ومأسسة موقع المرشد؛ بضبط صلاحياته؛ لتحجيم الاستبداد الديني وتنويع مصادر اتخاذ القرار، بما يكفل أكبر قدر من المشاركة السياسية، وكل هذه تقود في النهاية إلى مزيد من الحريات، ومزيد من الحصانة ضد الاستبداد. إنهما وجهتا نظر يصعب – إن لم يكن مستحيلا – التقاؤهما، ولو على سبيل التعايش/ التشارك. ومن هنا نفهم ونتفهم أسباب فشل خاتمي؛ إذ كان يرأس حكومة، ولكن بلا سلطة حقيقية، فيما بدا أن الدولة تسير من غير خطة، أو هي تسير بخطة غير قابلة للتنفيذ؛ لأن مَن بيدهم السلطة لا يسمحون بتنفيذها، فكأننا في هذه الحال أمام سلطتين: سلطة تمتلك القوة، وليس لها أن تخطط على نحو تنفيذي للواقع؛ بما يتجاوز أزمات الواقع، وسلطة تريد تنفيذ ما تراه إصلاحا، ولكن ليس لديها السلطة/ القوة لفرض قراراتها. وهنا كان لا بد للتجربة الخاتمية أن تنتهي، "فليس من المعقول أن تستمر إيران برأسين وحكومتين إلى ما لانهاية. لأن الضرر بلغ حدا كبيرا"(مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص32). منذ البداية، منذ الأشهر الأولى لتولي خاتمي بدأت المعركة بين خاتمي ومعارضيه من تيار التزمت الديني. وكمثال على هذه البدايات الأولى، لنتذكر: غلام حسن كرباستشي، رئيس بلدية طهران، الذي ساعد خاتمي في الوصول إلى الرئاسة، وذلك في انتخابات مايو1997م. إن مساعدة كرباستشي لخاتمي كانت أكبر ذنوبه عند عتاة المحافظين. ولهذا نجده بعدها بحوالي عشرة أشهر يدفع الثمن، ويسجن بتهم الفساد. "لكن كثيرا من الإيرانيين يشككون أصلا في التهم الموجهة، لأن الفساد الحالي منتشر في جميع مرافق الدولة في إيران، بما في ذلك القضاء والشرطة"(مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص20/21). ورجال الدين أكثر تورطا في الفساد من غيرهم؛ لأنهم هم الممسكون بزمام السلطة، وبآليات الحساب والعقاب فيها. هذا ما يمكن أن يلاحظه أي باحث، وهو ما أكّده راي تاكيه بقوله: "وبالفعل فإن رجال الدين المتشددين في إيران هم من العاملين الأكثر فساداً على المسرح السياسي الإيراني، منشئين عمليا مؤسسات للمحافظة على امتيازاتهم على حساب الخير العام"(نشوء الإسلام السياسي الرديكالي وانهياره، ص235). إن تهم الفساد يجري تلفيقها لكل من يعارض تغوّل رجال الدين في المؤسسات الحكومية، وبالتالي يهدد مشروعية النظام الثيوقراطي الحاكم. وعملية التلفيق ليست صعبة، بل تتم بسهولة؛ لأن وقائعها/ حيثياتها تُرصد من خلال سياق إداري/ قانوني بدائي، لا يضع الضوابط الصارمة للفصل بين ما هو فساد وما ليس بفساد. وهذه وضعية لا تخص إيران، بل تتشابه فيها كل دول العالم الثالث؛ حيث القانون/ الأنظمة بقدر ما تسمح للكثيرين بالإفلات من تهم الفساد، هي بذاتها كأنظمة مترهلة، تسمح للكثيرين بالوقوع في مصيدة المتربصين !. لقد أرادها المتطرفون حربا منذ البداية، وقد ازداد تصميمهم بعدما اكتسبت الحركة الإصلاحية مزيدا من التأييد الجماهيري. لم يعد الإصلاحيون مجرد منافسين، بل نظر إليهم المحافظون وأتباعهم كأعداء، بل كشياطين يجب اجتثاثهم. ومن هنا لا غرابة أن يهتفوا في مظاهراتهم المضادة للإصلاح قائلين: "لن نبقي من جنود إبليس واحدا"(مصاحف وسيوف، رياض الريس،ص186). وعندما بدا أن خاتمي مصمم على مواصلة الإصلاح، وعلى تفعيله في أكثر من صعيد مؤسساتي، وعندما بدا أن التيار المحافظ بات يخسر بعض مواقعه الحيوية؛ ظهر الحرس الثوري مهددا باللجوء إلى العنف لمواجهة بذريعة (الانقلاب على مبادئ الثورة)، وقد قام باغتيال بعض المعارضين لإثارة الخوف في أوساط الحركة الإصلاحية. (الجمهورية الصعبة، طلال عتريسي، ص197). على الرغم من تصميم خاتمي على المضي في مسيرته الإصلاحية إلا أنه لم يكن غريبا على النظام الثيوقراطي الذي يحكم من خلاله. إنه يدرك حدود ما يستطيعه، كما يدرك إلى أي مدى يمكن أن تصل ردة فعل المتطرفين من داخل النظام ومن خارجه. ولهذا ظهر وكأنه يحسب خطواته الإصلاحية بحذر، محاولا مجاملة الفاعلين في النظام، وعلى رأسهم المرشد. كما لم يرد متابعة مثيري أعمال العنف من المتطرفين، خاصة وأن بعضهم من داخل المؤسسات العسكرية والأمنية؛ لأن هذا سيؤدي به إلى مواجهة مفتوحة مع الممسكين بزمام السلطة في هذه المؤسسات الحاكمة. من هنا ظهر خاتمي متردداً في سلوكه الإجرائي، رغم تصميمه المبدئي. وقد ضاق الإصلاحيون بهذا التردد، وأرادوه أكثر إقداما وحسما. ولا شك أن الإصلاحي الذي يعمل من داخل النظام، يرى ما لا يراه الإصلاحي الذي يُعارض من خارجه، إذ إن هذا الأخير يعمل متحللا من الضرورات والاشتراطات. ومن هنا نفهم لماذا وجّه الإصلاحيون ذلك الخطاب التحريضي إلى خاتمي، والذي كان بعنوان: (اخرج من صمتك أو استقل واتركنا نواجه السلطة)، متوهمين أنهم يستطيون مواجهة السلطة. ولعل أهم ما ذكروه في هذا الخطاب هو مسألة خطف المواطنين، والسجون السرية، وضرورة متابعة ذلك (الجمهورية الصعبة، طلال عتريسي، ص203). لكن، وعلى الرغم من أن خاتمي كان على رأس السلطة، إلا أنه كان يدرك جيدا أن أذرع السلطة الحقيقية ليست بيده، وأن عليه – إن أراد الاستمرار – أن يعمل بصمت؛ ليحصل على القليل، القليل مما لا يقنعه، فضلا عن أن يقنع أتباعه من المتفائلين بحركة الإصلاح. يحلو لكثير من المتعاطفين مع خاتمي أن يرجعوا فشل مسيرة الإصلاح الخاتمية إلى المحافظين، وإلى المحافظين وحدهم، وكأن خاتمي قد خطط ليعمل في فراغ. العوائق كانت ماثلة، والحرب ضد الإصلاح كانت متوقعة، ولولا حجم التحديات لم يكن لحركة الإصلاح أهميتها أصلا. كان خاتمي يدرك منذ البداية أن خططه الإصلاحية تتعارض مع توجهات المرشد الأعلى الذي يهيمن على مفاصل السلطة، وكان يدرك أن السلطة القضائية بقضاتها المتزمتين دينيا ضده، كما كان يدرك في الوقت نفسه أن هذه السلطة ستحاصره إذا ما قررت الترصد له. وهذا ما حدث، فقد دانت هذه السلطة القضائية عشرات الإصلاحييين، وأوقفت معظم الصحف المتعاطفة مع الإصلاح، (راجع كثيرا من الوقائع التي تفضح دور القضاء في إغلاق الصحف في كتاب طلال عتريسي: الجمهورية الصعبة، ص109)، ومن بعد ذلك كانت هذه السلطة القضائية ومجلس صيانة الدستور من أهم أدوات إقصاء الإصلاحيين. وباختصار نستطيع التأكيد أن مسؤولية فشل الإصلاح لا تقع على عاتق المحافظين وحدهم، حتى وإن كانوا هم السبب الرئيس فيه. ليس منتظرا من المحافظين أن ينظروا بحياد إلى السلطة وهي تتبدد من بين أيديهم، فالقوة التي بأيديهم تدفعهم للمواجهة من أجل الحفاظ عليها. وهذا يعني أن هناك مسؤولية تقع على الإصلاحيين أنفسهم، من حيث إنهم لم يخططوا جيدا، ولم يدركوا قوة خصومهم، وخاضوا التجربة قبل أن يتأكدوا من سبل النجاح ولو في المسارات التنموية الخالصة. وبهذا لم يتحقق للجماهير التي أيدت الإصلاحيين الحد الأدنى مما كانت تتوقعه تنمويا وتحرريا، "وقد أدى عدم وجود برنامج محدد للعمل الإصلاحي وعدم وجود الفاعلين والناشطين، إلى ذبول الوجه النظري للإصلاح"(الجمهورية الصعبة، طلال عتريسي215). وبهذا، أصبح مشروع الإصلاحيين – في نظر جماهير المؤيدين – وكأنه مجرد شعارات تحررية براقة؛ لا تختلف – في مستوى الإنجاز الفعلي – عن شعارات ووعود المحافظين من رجال الدين. وأياً كان الأمر، فقد أنهى خاتمي فترتيْ رئاسته دونما نتائج مؤثرة تستحق التسجيل. انتهت التجربة الخاتمية في صورتها الظاهرية على يد عرّابيها وبإرادتهم لمصلحة آنية (= منع الاحتراب الأهلي)، وبخطوات شبه تصالحية؛ حتى لا تتفجر الأوضاع، وينتقل المجتمع البائس من سيئ إلى أسوأ. لكن، ومع كل هذا التأكيد على النهاية غير المشجعة، إلا أنه يجب التنبه إلى الحقيقة المتضمنة في هذه النهاية الغائمة، وهي أن حركة الإصلاح لم تنتهِ من على واجهة المؤسسات السلطوية؛ إلا لتكون جنينا واعدا في رحم المستقبل الإيراني.

مشاركة :