بغداد - فندت المطالب المعلنة لمنظمي الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد والمحافظات الجنوبية، الأسبوع الماضي، المزاعم الحكومية وإعلام السلطة المدعومة من قبل الميليشيات والأحزاب الدينية، التي سعت إلى شيطنة خطاب التظاهرات، والتركيز على أعمال العنف التي تخللتها فحسب. وكانت محركات الاحتجاج العراقية واعية لهذا الالتفاف الإعلامي من قبل أجهزة السلطة وأحزابها، بعد الإعلان عن قائمة مطالب واضحة، يريد النشطاء إطلاقها خلال تظاهرات يدعون لخروجها في الخامس والعشرين من الشهر الجاري. وسعى منظمو الاحتجاجات إلى أن تكون المطالب على قدر كاف من الوضوح، بما يسمح للجميع بفهمها دون مخاوف. وعنون نشطاء قائمة المطالب بالإشارة إلى أنهم لا يتظاهرون من أجل توفير الخدمات كما تروج السلطة، لأن هذا هو واجب الحكومة ومسؤوليتها، ولا يحاولون إسقاط الدولة، بل من أجل إصلاح شؤونها. وللمرة الأولى، منذ انطلاق الاحتجاجات، يتداول نشطاء تعريفات مبسطة للتفريق بين إسقاط النظام السياسي أو إسقاط الدولة برمتها. ومن أبرز المطالب التي جاءت في القائمة المتداولة بين النشطاء، “إعادة النظر في بعض فقرات الدستور وتعديلها بما يسمح بالتحول إلى النظام الرئاسي بدلا عن البرلماني، ويمهّد لحظر الأحزاب ذات المنطلقات والمسميات والشعارات الدينية، وإلغاء الحلقات الزائدة في نظام الإدارة، مثل مجالس المحافظات، والهيئات المستقلة، من قبيل الوقفين الشيعي والسني، ومؤسسات السجناء والشهداء والحج والعمرة، وغيرها من المسميات الموجودة لخدمة شرائح محددة بشكل تمييزي”. ويطالب المحتجون بتقليص عدد أعضاء مجلس النواب والحدّ من امتيازاتهم المالية الكبيرة. ويبدو أن إصرار المحتجين على تطبيق قانون “من أين لك هذا”، يضمر نية بمحاسبة جميع أركان الطبقة السياسية الذين أثروا على حساب المال العام منذ العام 2003، وهو المصدر الرئيسي لرعب الساسة في العراق حاليا. وتدور مطالب المتظاهرين الأخرى حول التوزيع العادل للثروات ودعم المنتج الوطني وتأهيل المعامل والمصانع وبناء جيش وطني، وتوفير فرص العمل وحل أزمة السكن. ويدور جدل واسع في أوساط النخب العراقية، بشأن ما إذا كانت حركة الاحتجاج التي انطلقت مطلع أكتوبر الجاري، هي “هبّة جياع” وتظاهرات مطلبية، أم “ثورة ضد النظام السياسي” ومحاولة لتصحيح أوضاع البلاد جذريا. وانقسمت النخبة العراقية بين من يقول إن المتظاهرين هم عاطلون عن العمل وجياع، وبين من يقول إنهم باحثون عن استعادة كرامتهم التي سلبها فساد الأحزاب الإسلامية طيلة 16 عاما، وفشلها الذريع في إدارة البلاد، حتى تداعت البلاد نحو نهاية الترتيب في سلم الأمن والخدمات والصحة والتربية وغيرها. وتلقف إعلام السلطة شعار إسقاط النظام السياسي، الذي رفعه المحتجون في بغداد والمحافظات، ليفسره على أنه سعي نحو إسقاط الدولة كلها، ما يعني الاتجاه نحو الفوضى. وظهر محللون في قنوات رسمية وحزبية داعمة للحكومة، ليحذروا من مخاطر الشعارات التي يرفعها المتظاهرون. ووصف هؤلاء المحللون جميع الشعارات ذات الطابع السياسي التي تتضمن إسقاط النظام ومحاسبة رموز السلطة الفاسدة وتشريع قانون عادل للانتخابات وإجراء انتخابات بإشراف أممي، بأنها “متبنيات بعثية” أو “مؤامرة أميركية”، لإسقاط حكومة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، بسبب ولائها لإيران. وروج مدونون مرتبطون بأحزاب إسلامية موالية لإيران وداعمة لحكومة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، أفكارا تتعلق بإمكانية أن تؤدي الفوضى الناجمة عن الإسقاط المزعوم للدولة، إلى أن “يخسر الموظفون رواتبهم”. وبالنسبة لنشطاء في حركة الاحتجاج، فإن هذه السياسة الإعلامية تستهدف تحويل الموظفين الحكوميين في العراق، وهم قرابة سبعة ملايين بين مدني وعسكري ومتقاعد ومتعفف، إلى خصوم للمتظاهرين، من خلال استنهاض مخاوف انقطاع الدخل الشهري. وتدرك الحكومة العراقية والأحزاب الداعمة لها، أن القلق لا ينقطع لدى شريحة الموظفين الواسعة جدا، لأنها ربما الوحيدة بين الشرائح الأخرى التي تملك دخلا ثابتا، وسط وضع اقتصادي مضطرب، يحمل الكثير من التهديدات. وعلى هذا، تستخدم الحكومة رواتب الموظفين في الدعاية السلبية ضد التظاهرات. ولم يكن العنف المفرط الذي مارسته حكومة عبدالمهدي وأدى إلى إصابة أكثر من سبعة آلاف متظاهر، وموت المئات منهم، إلا دليلا على شعور تلك الحكومة بخطر استمرار الاحتجاجات على وجودها كما أن الطبقة السياسية برمتها قد شعرت هي الأخرى بأنها كانت مستهدفة في ظل المطالبة الشعبية الواضحة برحيلها. ويؤكد الكاتب السياسي العراقي فاروق يوسف على أن الدولة لم تكن مستهدفة والدليل على ذلك أن المتظاهرين لم يمارسوا أعمال تخريب في حق المنشآت الحكومية أو الممتلكات الخاصة وهو ما يؤكد أنهم لم يسعوا إلى بث الفوضى كما تزعم الحكومة. وكشفت التظاهرات عن وعي سياسي متقدم لدى الشباب المحتج لا على الأوضاع المعيشية وسوء الخدمات وعمليات الفساد المبرمج وحدها بل وأيضا على سياسات الحكومة الداخلية والخارجية وهو ما دفع به إلى المطالبة بقطع الارتباط بالسياسة الإيرانية وإنهاء حالة التبعية والخنوع لإملاءات الولي الفقيه ولمصالح الحرس الثوري الإيراني. وذلك ما اعتبرته أطراف عديدة في الحكم تجاوزا لخط أحمر، رسمته الميليشيات والأحزاب التابعة لإيران. وقال يوسف في تصريح لـ”العرب”، “لو اكتفى المتظاهرون بالشعارات التقليدية التي تطالب بالخدمات والوظائف ومحاربة الفساد ولم ينتقلوا إلى جوهر المشكلة التي يعاني منها العراق والتي تتلخص في تبعية الحكومة العراقية لما اضطرت الميليشيات إلى ممارسة القتل ذلك لأنها غير معنية بمصير حكومة عبدالمهدي”. ولم يستغرب الكاتب العراقي موقف الحكومة وأجهزة إعلامها بممارسة الابتزاز عن طريق التلويح بأن تجدد الاحتجاجات قد يؤدي إلى قطع الرواتب، مما يشيع حالة من الذعر بين أوساط الشعب. قائلا “الحكومة لا تملك حلولا إيجابية، من شأنها أن تؤدي إلى تهدئة الشارع والحيلولة دون تجدد الاحتجاجات وتجدد الصدام عن طريق العنف مع الشباب المحتج. ولقد بدا واضحا من خلال تكثيف الوجود الإيراني، عسكريا ومدنيا والمبالغة في الإعلان عنه في مرحلة ما بعد الاحتجاج على الهيمنة الإيرانية أن الحكومة لا تملك أن تغير من سياستها شيئا وهي غير قادرة على القيام بذلك”.
مشاركة :