وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الإمارات بعد يوم من زيارة قام بها إلى السعودية، وتم خلالها تتويج التقارب بين موسكو والرياض بالتوقيع رسميا على ميثاق التعاون بين “أوبك” والدول المنتجة خارج المنظمة، وعلى مذكرات تفاهم واتفاقيات، سيكون لها مثيلها مع الإمارات بما يدعم الاقتصاد الروسي بعد استهدافه عام 2014 بعقوبات أوروبية وأميركية، كما يدعم أساس السياسة الخارجية الروسية في المنطقة والعالم وأيضا يثبّت دعائم الحلف السعودي الإماراتي كقوة إقليمية مؤثرة في وقت تتراجع فيه الولايات المتحدة وتصعد قوى أخرى إلى جانب روسيا على غرار الصين. بعد عشر سنوات من زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المملكة العربية السعودية، أدى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز زيارة تاريخية جوابية إلى موسكو في العام 2017 ليتم انكسار الجليد في العلاقات التي ظلت شبه مجمدة خلال الحقبة السوفييتية. كانت العلاقات بين البلدين قد قُطعت في العام 1938 استنكارا من الرياض لإعدام ستالين، الدبلوماسي السوفييتي المرموق والناجح، كريم حاكيموف، الذي كان سفيرا لدى السعودية وصديقا شخصيا للملك عبدالعزيز، الذي تقبله كسوفييتي وأطلق عليه لقب “الباشا الأحمر”. جاءت زيارة الرئيس فلاديمير بوتين الثانية الاثنين الماضي بجدول أعمال واسع، بعد أن تجاوز البلدان مرحلة كسر الجليد. فقد صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، قبل وصول بوتين إلى الرياض، بأن “القمة الروسية السعودية ستعطي دفعة قوية لشراكتنا متعددة الأوجه وستسهم في نموها النوعي وتعزز التفاهم المتبادل بين الشعبين”. في السنوات الأخيرة، كان الانسجام السعودي الروسي، على صعيد السياسة البترولية، قد مهّد إلى توصل الدول المنتجة لاتفاقية أوبك المتعلقة بخفض إمدادات النفط العالمية، وأسهم في بناء الثقة، وعزز العلاقات الثنائية، إذ تمكنت موسكو والرياض كجهات رئيسة منتجة وموقعة، من تحقيق الاستقرار في أسعار النفط، ما ساعد على استمرار التعاون بين البلدين، في مراقبة السوق البترولية، وتمكين روسيا، بفضل هذا التعاون، من رفع عوائد وارداتها من الطاقة إلى 100 مليار دولار. في هذه الزيارة الأخيرة للرئيس بوتين إلى الرياض، جرى التوقيع على 30 اتفاقية وعقد، حسب ما وعد به وزير الطاقة الروسي ألكسندر بوفاك في أوائل شهر أكتوبر الجاري. وكان الوزير الروسي وقتها قد أضاف أن القيمة الكلية لهذه الاتفاقيات وأهمها ما يتعلق بالطاقة، ستصل إلى عدة مليارات من الدولارات. للتأكيد على أهمية هذا التعاون وحجمه، قال كيريل ديميتروف، الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار الروسي المباشر إن روسيا والسعودية تخططان لتوقيع عقود في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والثقافة والاستثمار، على أن يُناقش الخبراء الروس مع خبراء صندوق الثروة السيادية السعودي آليات التنفيذ في خطط الاستثمارات المشتركة. وجدير بالعلم أن المنظمتين الاقتصاديتين الاستثماريتين، الروسية والسعودية، افتتحتا علاقات تعاون منذ العام 2015 ووضعتا خطط الشراكة الاستراتيجية، وتوافقتا في تلك السنة على رزمة مشاريع استثمارية بلغت قيمتها نحو 2.5 مليار دولار، من عشرة مليارات تم التوافق على تخصيصها لسياق هذه الشراكة. وليس أدل على عزم البلدين على الاستمرار في خيارهما الاستراتيجي الاقتصادي، من مبادرة صندوق الاستثمار الروسي المباشر بافتتاح أول مكتب له خارج روسيا، في العاصمة السعودية الرياض. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تشمل الشراكة الاستثمارية السعودية الروسية الحصول على حصة كبيرة من شركتين إحداهما روسية والثانية سعودية، وهما الشركة الروسية لتصنيع معدات النفط “نوفوميت” وشركة أرامكو السعودية العملاقة. وهناك تفاوض سعودي روسي على ابتياع السعودية 30 بالمئة من أسهم شركة “غاز بروم” الروسية، لمعالجة الغاز الطبيعي. عند تأمل هذا السياق ووجهته، نرى أن الأمور، وإن كانت تتجه في خط معاكس لدوران رحى السياسة ومحددات العلاقات الروسية مع دول الإقليم ومواقف موسكو حيال قضايا تقف منها السعودية على الطرف النقيض؛ فإنها تؤشر بوضوح إلى جملة حقائق، من بينها أن روسيا ماضية في تعزيز تواجدها في منطقة الخليج، وأن الانفراد الأميركي فيه وبه، قد يصبح خلال فترة وجيزة جزءا من الماضي. ولعل من السابق لأوانه القول إن انكشاف عقم السياسة الأميركية، وتفوهات الرئيس دونالد ترامب الدالة على هذا العقم، انعكس على السعودية وأقطار الخليج، بقطع النظر عن تطورات أو تعاقدات راهنة، توحي بغير ذلك. ويصح القول هنا إن خيارات السعودية وشقيقاتها في الخليج، لم تعد مثلما كانت قبل عقدين، إذ لم يكن من الطبيعي أن تذهب السعودية إلى مثل هذه الخطوات من الشراكة والتعاون مع روسيا، وبهذا الحجم الكبير. فمع مرور الوقت، وعلى الرغم من بطء التعاون الذي تسبّب فيه الصراع في سوريا، إلا أن الروس ظلوا على دأبهم تأسيس علاقات تعاون وشراكة، الأمر الذي يحمل في طياته احتمالات قوية وواعدة، بخصوص المواقف السياسية، كأنصاف حلول مشفوعة بجهود روسية لتصفير بعض المشكلات في المنطقة، وتنفيس الاحتقان. فالاقتصاد لا بد أن ينعكس في السياسة. وكانت علاقات روسيا مع دول الخليج في مجالات التجارة والطاقة الروسية والثقافة والدبلوماسية، قد شهدت تحولات مغايرة لرحى السياسة الدائر في الإقليم. ولم يكن معنى ذلك، أن روسيا تخلت عن مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، لأن دعمها لسوريا، وتعاونها المفتوح مع إيران، يُعتبر مسألة استراتيجية هامة بالنسبة لموسكو، وبخاصة في سعيها إلى تحقيق توازن مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والطموح إلى رجحان كفتها في المنطقة. فروسيا، وقد تحسست حاجتها إلى علاقات اقتصادية مع الخليج، وإلى التواجد الوازن فيه؛ وجدت نفسها مضطرة إلى إدخال الذراع العسكرية، من خلال استخدام مواني إيرانية، كبندر بوشهر وجابهار، على ساحل خليج عُمان الشمالي، كقواعد عسكرية أمامية للسفن العسكرية الروسية والغواصات النووية التي يحرسها مئات الجنود من الوحدات العسكرية الروسية الخاصة، على أن يتواجد هؤلاء تحت ستار “مستشارين عسكريين”، ذلك فضلا عن قاعدة جوية بالقرب من بندر بوشهر، تضم 35 طائرة مقاتلة من طراز سوخوي 35. ويعتزم الإيرانيون والروس تدشين التواجد العسكري الروسي رسميا في الخليج، من خلال الشروع في تدريبات مشتركة في المحيط الهندي ومضيق هرمز. عندما تصل العلاقات الروسية الإيرانية إلى هذه المرحلة، تصبح محاذير وموانع الحرب في الخليج أكبر، إذ يتواجد الروس على إحداها عسكريا على الجانب الإيراني منه، ويتواجدون اقتصاديا على الجانب الآخر. في الوقت نفسه يتعزز الدور الروسي في منطقة كانت حكرا على الأميركيين، وتزداد فرص الحوار للتوصل إلى حل للمشكلات على قاعدة لا ضرر ولا ضرار. وبينما ينسحب الأميركيون من سوريا، ويحاجج رئيسهم بأن لا فائدة من الانخراط في النزاع الدائر فيها وعليها؛ يؤطر الروس تواجدهم في سوريا، بموجب اتفاقية العام 2017 التي منحهم النظام بموجبها حق التواجد في طرطوس وجوارها لـ49 سنة، ضامنين لأنفسهم النصيب الأوفر بعد انتهاء الحرب، من مشروعات استخراج الطاقة هناك، ويتمركزون في إيران، بعد أن اتخذ ترامب في حقها من قرارات تُفاقم أزمة الإيرانيين، وتدفعهم إلى ممارسة الضغوط في مناطق أخرى، وإلى الاستمرار في صنع التوترات في المنطقة، والرهان على مساعدة الروس طلقاء اليد، الذين لا يمتثلون للنواهي الأميركية. علاقات روسيا مع دول الخليج في مجالات الطاقة والثقافة والدبلوماسية شهدت تحولات مغايرة لرحى السياسة في الإقليم في هذه الأثناء، بدا أن الإيرانيين اضطروا إلى مساعدة الروس على التواجد في منطقة الخليج، كرد فعل من جانبهم على التهديدات الأميركية. ويرجح أنهم اضطروا اضطرارا، بحكم سوء أدائهم في تعاملاتهم الأخيرة مع روسيا، لاسيما حيال ما يعتبره الروس حقوقا لهم من عوائد نفط وغاز بحر قزوين. ويتبدى عامل الاضطرار من خلال العلاقات المشوبة بالتوتر الميداني بين إيران وروسيا على الأراضي السورية. فقد رحب الإيرانيون بالتواجد الروسي على أراضي بلادهم، كجواب موضوعي على تواجد الأميركيين على الضفة الأخرى من الخليج. فإيران، في هذا الخضم، باتت في أمس الحاجة إلى حليف جيوسياسي، يخفف عليها احتمالات الهجوم الأميركي، بتأثير سياساتهم التي تقابل التصعيد الأميركي بتصعيد مضاد، كأسلوب لا بديل له، لمقاومة الحصار والتهميش السياسي والحرمان الاقتصادي، وعلى الرغم من تأكيد الأميركيين أنفسهم على كونهم لا يعتزمون الهجوم، بل على الرغم من الفجوة التي نشأت في هذه المسألة بين واشنطن وتل أبيب التي ابتلعت تراجع الرئيس ترامب عن التهديد العسكري لإيران، وصمتت وفاء لما قدمه ترامب لها في القدس والجولان، خلافا لقواعد العلاقات الدولية وقرارات الأمم المتحدة. ثم إن إيران، وجدت نفسها مجبرة، بتأثر العقوبات الاقتصادية، على إبرام صفقة مالية مع روسيا، لكي تتجاوز حال التقشف الشديد، الذي من شأنه تأجيج الشارع ضد سياسات حكامها، وإعادة الحيوية للمجتمع المدني الإيراني، وتوسيع شعبية المعتدلين في النظام. وكان “الحرس الثوري” الإيراني، داعما للصفقة المالية، ثم كان داعما كذلك للتواجد العسكري الروسي في المواني الإيرانية. وكالعادة، سيكون كبار الشخصيات في “الحرس الثوري” حصة الأسد من فوائد الاتفاق مع روسيا. ويقضي هذا الاتفاق، بتوريد نفط إيران إلى روسيا، بواقع مئة ألف برميل يوميا، أي خمسة ملايين طن سنويا، مقابل خدمات وسلع تقدمها موسكو لطهران. ويعتبر الاتفاق الآن شريان الحياة الوحيد المتبقي للإيرانيين. وسيكون تسديد ثمن النفط، مناصفة بين تغطية أثمان البترول سلعا وخدمات وعربات سكك حديدية وقطع غيار عرباتها وأسلحتها، والنصف الثاني نقدا. وفي الحقيقة، لم يجد النظام الإيراني وسيلة لتلافي الانفجار الشعبي، سوى هذه الصفقة التي تؤمن الحد الأدنى من متطلبات الشعب الإيراني. كل هذه العوامل الروسية جعلت موسكو قادرة على توسيع دائرة حركتها الدبلوماسية وتعاونها وشراكاتها الاستثمارية التي تتجاوز السياسة، وتشمل كل أطراف الخصومات في الإقليم. وربما قرأت السعودية، لاسيما في لحظات الضجر من الأميركيين وسياساتهم وتفوهات رئيسهم، هذه العوامل. ولم يكن شيء يمنع الرياض من التعاون مع روسيا، طالما أن وجودها على ضفتي الخليج، سيكون عنصر تهدئة لا عنصر توتير. والروس، بطبيعة سياساتهم باتوا يركزون على الاقتصاد، بل يحاربون، كما حاربوا في سوريا، لدوافع متعلقة بآفاق استخراج الغاز من باطن أرضها وبحرها. لذا تراهم يجمعون في جوف واحد، السعودي والإيراني، والنظام السوري مع النظام التركي، والدول الصغرى في الخليج مع خصومها، وهم في هذا السياق، لا يكترثون للأيديولوجيات ولا لاعتبارات الدول وسياساتها، طالما أن طريقهم إليها سالكة. ثم ساعدتهم سياسات ترامب، وتعدد تراجعاته ولقطات نفض يده من قضايا حلفائه المحليين، على توسيع دائرة دبلوماسيتهم وتعاقداتهم الاقتصادية.
مشاركة :