تسعى روسيا لأن تستعيد دمشق سيطرتها الكاملة على أراضيها والتوصل إلى حل سياسي بشأن الحرب، إلَّا أن التدخل التركي في شمال سوريا يمكن أن يكون انتكاسة مؤقتة للمصالح الروسية، بجانب توجس روسيا من خطر مقاتلي "داعش" السجناء. رُغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يعلن إدانته بشكل مباشر لـ "عملية نبع السلام" التي تنفذها تركيا في شمال شرق سوريا، إلا أن عدم ترحيبه بها واضح جدا. ووفق بيان صدر عن الكرملين، تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وبوتين عبر الهاتف، ومن الواضح أن الأخير قد "حث شركاءه الأتراك إلى تقييم دقيق للوضع من أجل منع الإضرار بالجهود المشتركة الرامية إلى تسوية الأزمة السورية". وكان الخط الرسمي الذي تتبعه روسيا دائماً تجاه سوريا هو الدفع نحو تشكيل لجنة دستورية يعتبرها المجتمع الدولي حجر أساس في عملية السلام، فضلًا عن تكرار الدعوة إلى سيادة سوريا و"سلامتها الإقليمية" التي يتضح أن أردوغان وبوتين شددا عليها أيضاً خلال مكالمتهما الهاتفية. بيد أن مراقبين في موسكو يرون أن هذه العملية تضر بالمصالح الروسية بدرجة أكبر بكثير مما يتضمن عليه بيان الكرملين، إذ أوضح الدبلوماسي السابق والخبير في شؤون الشرق الأوسط فاتشسلاف ماتوزوف، في تصريحات لـDW، أن "الهجمة العسكرية التركية لا تصب في مصلحة روسيا، لأنها ترى أن الحكومة السورية من المُفترض أن تكون مسيطرة على على الأراضي السورية". في نهاية المطاف، دخلت القوات الروسية الحرب في عام 2015 داعمة حكومة الرئيس السوري بشار الأسد. وأشار بوتين إلى أن أي قوات لم تتلق دعوة صريحة من حكومة الأسد بتقديم مساعدة حربية، فإنها تعتبر قوات احتلال غير شرعية في أساسها، مشدداً على ضرورة انسحابها من البلد. وعلى الرغم من أنه كان على الأرجح يرمي بقوله هذا إلى الولايات المتحدة، فربما تسري هذه التصريحات أيضاً على القوات التركية. ومع ذلك، فقد كرر المسؤولون الروس في أكثر من مناسبة وصف المخاوف الأمنية التركية المتمثلة في عمليتها ضد القوات الكردية بالشرعية. مراوغة روسية وإذا كان هناك تضارب في البيانات الصادرة عن روسيا، فإن ذلك يبرز الموازنة الدبلوماسية التي تحاول أن تمارسها روسيا حاليًّا تجاه العملية التي تنفذها تركيا، إذ تحاول موسكو الظهور بمظهر الوسيط في هذا الصراع المعقد. من جهته، يشير الخبير العسكري الروسي المستقل ألكسندر جولز إلى أن "هذه العملية تضع روسيا في موقف مزعج جدًّا، وعليها أن تراوغ منعًا لإفساد علاقتها بتركيا أو الأكراد وحفاظًا على علاقتها بالأسد". وفي حين أن المرحلة الأخيرة من اللعبة الروسية في سوريا هي إعادة جميع الأراضي السورية إلى الحكومة في دمشق، فإن موسكو كانت ولا تزال تحاول الإبقاء على تركيا إلى جانبها، فلقاءات فلاديمير بوتين مستمرة بشكل منتظم مع قادة إيران وتركيا بشأن عملية السلام السورية، فضلًا عن الاجتماعات الثنائية التي أجراها الأول مع أردوغان هذا العام. وعلى الرغم من أن الاثنين يقفان على طرفي نقيض من الصراع السوري بدعم روسيا للحكومة ودعم تركيا للمعارضة فإنهما يتمتعان بعلاقة قوية. وقد انتهت تركيا مؤخرًا من عملية شراء منظومة صواريخ روسية S-400 رغم انتقادات من حلف شمال الأطلسي. كانت القوات الامريكية تدعم قوات سوريا الديمقراطية قبل إعلان ترامب سحبها من سوريا. تحقيق توازن وبينما تبدو العملية العسكرية التركية مزعجة لروسيا، فإنها تمنحها فرصة لتحقيق المزيد من النجاحات فيما يتعلق بوساطتها في صراع سوريا خصوصًا مع تلويح الولايات المتحدة بسحب كامل لقواتها من البلاد. وأبرم المسلحون الأكراد، نهاية الأسبوع الماضي، صفقة مع القوات المسلحة السورية لصد الهجمات التركية وتسليم سلطة عدد من المدن الحدودية في المنطقة إلى القوات السورية المدعومة من روسيا، إذ أفادت تقارير بأن روسيا قد توسطت الاتفاقية. وبعد أن كان الأكراد يتطلعون سابقًا إلى القوات الأمريكية مع وجود "تهديد بعدوان تركي، أصبح الأكراد يتطلعون الآن إلى دمشق"، مثلما أوضح فاتشسلاف ماتوزوف الذي قال في تصريحات لـDW "إن وعود الولايات المتحدة باستقلالية الأكراد هي العائق الذي كان يقف سابقًا في طريق إعادة الأكراد إلى المجموعة". خيارٌ سهل الخبير في شؤون الشرق الأوسط أندريه أونتيكوف، يرى أن روسيا ترغب في خروج الولايات المتحدة من الصراع السوري على المدى الطويل. وأوضح أنه على الرغم من أن تركيا وروسيا ليستا على وفاق بشأن سوريا، فإن تركيا شريك مفاوضات أكثر أريحية من الولايات المتحدة على حد تعبيره. قوات سورية وروسية. وقال أونتيكوف في تصريحات لـDW: "إذا كان علينا (في روسيا) الاختيار بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، فسنختار تركيا. وسنبذل كل جهد لإخراج الولايات المتحدة الأمريكية من الأراضي السورية". ولفت إلى وجود فرصة لـ"حوار بناء" مع تركيا بشأن سوريا في نهاية الأمر، مضيفًا: "لا تمتلك روسيا مثل هذا الحوار مع الأمريكيين". "خطرٌ حقيقي" على الرغم من احتمالية أن تحول روسيا العملية العسكرية التي تنفذها تركيا ضد القوات الكردية في شمال شرق سوريا إلى تمرين دبلوماسي دقيق، فإن الهجوم يتجاوز كونه مجرد لعبة لروسيا، إذ من الممكن للهجوم أن يشكل تهديدًا خطيرًا على مصالح روسيا القومية، ولا يرجع ذلك فقط إلى أن أي خطر يهدد سوريا بقيادة الأسد هو بدوره تهديدٌ لاحتفاظ روسيا بتواجد عسكري دائم في الشرق الأوسط، إذ تعتبر موسكو ما تُعرف بالدولة الإسلامية (داعش) وأتباعها الهاربين خطرًا كبيرًا على الأمن القومي. وكان بوتين قد حذر يوم الجمعة، خلال قمة لدول الاتحاد السوفيتي سابقا، من احتمالية أن تتسبب العملية التركية في هروب مقاتلي داعش من منشآت كانت تخضع سابقًا لحراسة المسلحين الأكراد الذين يتعرضون الآن لهجوم من تركيا، إذ أوضح الرئيس الروسي: "يمكن الآن لـ"مقاتلي داعش" أن يفروا. لست متأكدًا إذا كان يمكن للجيش التركي - وبأي سرعة - أن يسيطر على الوضع"، ووجه حديثه للحضور: "إن هذا يشكل خطرًا حقيقيًّا علينا"، داعيًا الأجهزة الأمنية إلى التعاون. ووصف خبير الشؤون السورية أندريه أونتيكوف سعي روسيا لاستقرار البلاد "براغماتية مبتذلة"، بالنظر إلى أن العديد من مقاتلي داعش في سوريا قادمون من مناطق شمال القوقاز في جنوب روسيا، أو من جيران روسيا في وسط آسيا. ويبين أونتيكوف: "نحتاج إلى أن تكون سوريا هادئة حتى لا تكون مصدرًا دائمًا لعدم الاستقرار، الذي يمكن أن يؤثر على الوضع في الشرق الأوسط ووسط آسيا والقوقاز. إذا كانت الأمور هادئة هناك، لن يكون هناك تهديد من الجنوب لروسيا". إيميلي شيرفين/ ج.أ
مشاركة :