في أحوال الدراسة خارج الشبكة العنكبوتية

  • 10/18/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

ما يلي سرد لمسار ما اختبره الآلاف من الفنانين أو ربما أكثر. تخرجت في الجامعة سنة 1992 وعملي بدأ في مجال اختصاصي، أي مجال المرئي والمكتوب والمسموع المُطعّم باهتمامات محددة، وهي الثقافة بشكل عام والفنون البصرية بشكل خاص، ليستمر إلى الآن. وقد اخترت هذا الاختصاص لأنه سيؤمن لي عملا ولا يبعد البتة عن الفنون بالمعنى المطلق للكلمة. غير أنني بعد مرور العديد من السنوات وبروز التقنيات التكنولوجية الخاصة بشتى أنواعها البصرية بدأت أهتم بها كثيرا، وأرى فيها بعدا مشوقا وجديدا سيدفع بما تعلمته أو اختبرته إلى مكان أكثر تبلورا، وصرت في سري أقول: يا ليتني أستطيع العودة بالزمن لكي أتخصّص في مجال الفن الديجيتالي والمؤثرات والتقنيات البصرية التي تؤهلني للدخول إلى عالم الفيديو آرت والتحريك وكل ما هو مرتبط بالمرئي، إضافة إلى تخصّصي الأساسي الذي فيه روعة الجسور الممدودة إلى آفاق ليست بالضرورة معاصرة لها. فكّرت بأن أعود إلى الجامعة لكي أدرس هذا العلم الفني بامتياز، غير أن الوقت لم يكن متاحا لي كما أن الأقساط الجامعية في هذا المجال كانت خيالية. لذلك حاولت بكل ما لديّ من قوة وخبرة وعلم أن أصنع حداثة خاصة بي في مُقاربة ودمج الوسائط والمضامين بغية إنتاج نص بصري وكتابي وسمعي في آن واحد. وقد يكون برنامج “قصة لون” الذي أنتجته بالكامل في الحقل التلفزيوني أول تجربة في هذا المجال وأول تحايل مُوفّق على النقص في المعرفة بالتقنيات الحديثة. كان ذلك في سنة 1995. ثم جاءت الإنترنت وانتشرت قابلية استخدامها وجاءت معها فرصة أن أتعلم كل التقنيات التي تشوّقت إليها طويلا، وذلك عبر متابعة دروس على مواقع مُتخصّصة بعيدا عن دفع المبالغ الطائلة وعن ضرورة الالتزام بوقت محدد. حاولت، وتعلمت بعض الأشياء، ولكن لم تكن كافية. لم تكن كافية، ربما لأنني من الجيل المخضرم غير المتصالح تماما مع التكنولوجيا وفي أن تكون جامعتي “آلة” وأستاذي لا يعرفني ولم ولن أراه يوما. توقفت عن المحاولة من شدة الملل الذي لم أعرف أسبابه أساسا. عدت بقوة منذ أكثر من سنة إلى “التودّد” إلى تلك التقنيات المُشتهاة منذ زمن طويل. أما فكرة أنني ربما قد أكون تأخّرت عن تعلم تلك التقنيات فصارعتها ودحرتها كعدو لم أقبل أن يهزمني وجعلت منه صديقا رغما عنه. جاءت الفرصة في ما أستطيع وصفه بجمع المجد من أطرافه عندما بدأت بمتابعة دروس “بالطريقة التقليدية” خارج حدود الجامعة وضمن جغرافية صف حميمي ابتكرها لي ولعدد من الطلاب الآخرين أستاذ اسمه طوني. وطوني أستاذ “تقليدي” له وجه وقلب وروح مرحة وصبر خيالي، وهو عصري جدا بكل ما يعرفه من تقنيات لطالما أردت الإمساك بزمامها لكي تأخذني بعيدا من حيث بدأت منذ أكثر من خمس عشرة سنة. أستاذي في هذه المواد أتمناه لكل طالب في زمن التكنولوجيا. لم يأخذ وقتا طويلا قبل أن يدرك سر تلكئي في تنفيذ تعليماته، تلكؤ كان مشكلتي في أيام الدراسة الثانوية والجامعية وأساسه استعدادي الغريب الشكل للشرود وفي أن تأخذني أفكاري إلى مكان آخر خارج عن الانشغال بالحاضر. لم يكن عليه إلاّ أن وضّب مكانا لي إلى جانبه كي يضبطني بالجرم المشهود حين ألاعب ما تعلمته بعيدا عن توجيهاته، ليعيدني برفق ولكن بحزم إلى مرافقته خطوة تلو خطوة. وكنت وما زلت أراه يرمقني بين الفينة والأخرى بطرف عينه مع ابتسامة تسمح لي لبضع دقائق بأن “أخرج عن النص”، عن نصه هو، وتعليماته. اليوم عرفت سر مللي من التعلم عبر الإنترنت. وهو أن لا شيء يحل مكان حميمية التواصل ما بين الأستاذ/ الإنسان والطالب. صحيح أن المكان يتغير مفهومه مع الوقت وأن الفضاء الافتراضي يفرض ذاته كل يوم أكثر من قبل وأن التعلم عبر الإنترنت له فوائده ومنها الكلفة الضئيلة أو اللاكلفة على الإطلاق. ولكن للأسلوب التقليدي في التعلم فوائد أكبر؛ فهو يسمح بالتواصل مع الطلاب الآخرين والاستماع إلى أسئلتهم وأجوبة الأستاذ، ويسمح بمداخلات عديدة تفتح المجال إلى تنوير أعمق، ويخلق فضاء حيويا يتم فيه تبادل الأفكار والملاحظات، كما يسمح للأستاذ بأن يقدّم ما يحتاجه طالب دون آخر وخاصة إن كان عدد التلامذة قليلا. وربما، الأفضل هو الدمج بين الأسلوبين، الدراسة بالأسلوب التقليدي المُدعم بما تقدمه الإنترنت ولاسيما اليوتيوب من معلومات وتمارين وأمثال عديدة. اليوم، لم يعد التحسر على ما لم نعشه أو نتعلمه قدرا لا فكاك منه، لأننا نستطيع التعويض بفضل إمكانية ضغط الزمن ودمج القديم في الجديد. كنت أتبنى ما قاله يوما عباس محمود العقاد “أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة..”. ولكن ليس بعد الآن. حياة واحدة تكفي لأتعلم كل ما أريد تعلمه. وكم أحب الآن أن أقول للشاعر محمود درويش: بلا، حياة واحدة تكفي لنحلم ونعيش أحلامنا، فالليل “يكفينا لنحلم مرتين”.

مشاركة :