بالإضافة إلى آلية ممارسة السلطة ونطاق حركتها ضمن اختصاصها الدستوري، كما رأينا في الجزء الثاني من هذه المقالة، تتم السيطرة على السلطة ومنعها من الخروج عن نطاق تخصصها ومجال حركتها الدستوري عن طريق التأكيد على نظام القيم الخاص بالحريات والحقوق، من أجل حماية الأقليات والمرأة وفئات المجتمع المستضعفة، أو تلك التي يتطلب تدخل الدولة ومؤسساتها لحمايتها. وهذا ما يطلق عليه منظومة الحقوق المدنية. فالديمقراطية لا تستقيم أخلاقيا ولا عمليا ولا أمنيا إذا سلمت بحكم الأغلبية، دون التأكيد على حقوق وحريات الأقلية؛ لذلك تتطلب الديمقراطية خطا موازيا للمشاركة السياسية غير الرسمية، من أجل ضمان عدم استبداد الأغلبية. لاحظ المفكر الفرنسي موريس دي تتوكفل (1805 ــ 1859) أن ظاهرة استبداد الأغلبية غير واردة في المجتمع الأمريكي لأن الشعب الأمريكي أصلا مكون من ثقافات مختلفة معظمها هاجر إلى أمريكا هربا من الاضطهاد في مجتمعاتهم الأصلية. ثم إن واضعي الدستور الأمريكي، وإن ركزوا على هوية الدولة وعلى شكل العلاقة بين سلطات الحكم الثلاث، في النسخة الأصلية من الدستور، إلا أنهم سرعان ما تنبهوا لضرورة الإسراع في تفادي إمكانية استبداد الأغلبية، فتوالت التعديلات الدستورية التي عرفت بوثيقة الحقوق المدنية، التي حالت مؤسساتيا وقانونيا دون التعدي على حقوق الأقليات، ضمان كافة الحريات للجميع، حتى تلك ذات العلاقة بالفرد نفسه، وإن أخذ الأمر مائة سنة من كتابة الدستور، لإلغاء الرق في أمريكا، ومائة سنة أخرى لينال السود حقوقهم المدنية كاملة. فالديمقراطية ليست فقط ممارسات سلوكية لاختيار النخبة الحاكمة، التي من المحتمل أن تشوبها العيوب وممارسات أشكال الفساد السياسي المختلفة التي عادة ما تحدث في العملية الانتخابية، بل هي أسلوب حياة ونظام قيم مجتمعي متكامل يهدف إلى تحقيق غاية قيام الاجتماع السياسي (الدولة) عن طريق محاولة التوفيق بين نقيضين، الأول: ضرورة وجود السلطة السياسية في المجتمع. الثاني: العمل على جعل السلطة نفسها أداة ليس فقط لحماية حقوق أفراد المجتمع وحرياتهم، بل أيضاً؛ تعظيم تلك الحريات والحقوق الطبيعية والمكتسبة للإنسان. إلا أن هناك عيبا جوهريا في النظرية والممارسة الديمقراطية بنموذجها الغربي، يفسر لنا هذا الكم من التجارب الفاشلة في مجتمعات الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء، ألا وهو علمانيتها المقصية للدين عن الحياة السياسية. في الغرب تستند الديمقراطية الليبرالية على مفهوم التعددية السياسية التي تسود الحياة المجتمعية في الغرب، مع تحييد الدين تماماً عن النشاط السياسي. في مجتمعات الشرق الأوسط لا يمكن فصل الحياة السياسية عن الدين. من هنا نشأ نوع آخر من التعددية يعتمد على الطائفية المذهبية والجهوية.. وعندما يصطدم العامل الديني مع النشاط السياسي تظهر نعرات الأصول العرقية والجذور الثقافية، فيفرض نظام المحاصصة النيابية على أسس دينية ومذهبية وجهوية وعرقية، فتصبح الديموقراطية عنصر تناحر وانشقاق وتغيب قيم التسامح والاحتكام لآلية الكشف عن الإرادة العامة، وعوضا عن ذلك تسود قيم التعصب البعيدة كل البعد عن مبدأ التعددية السياسية، التي تقوم على متغيرات مجتمعية ذات أسس اقتصادية وطبقية وحضرية، تشكل موزاييك المجتمع السياسي للدولة القومية الحديثة. ومع ذلك تظل الديمقراطية (النيابية) أفضل الأسوأ من بين أنظمة الحكم، كما قال تشرشل، في ظل استحالة الأخذ بنموذج الديمقراطية المباشرة، التي يفضلها روسو، لضخامة عدد سكان الدول الحديثة وتنوع الطبقات الاجتماعية بها. وتبقى فكرة كارل ماركس عن المجتمع الشيوعي، حيث لا سلطة ولا مجتمع سياسيا ولا دولة، من أدبيات الفكر السياسي الرومانسي الفوضوي المناهض لقيام الدولة وجود السلطة، حيث افتراض الخيرية المطلقة في فطرة الإنسان... وهذه طبيعة الملائكة وليس البشر.
مشاركة :