هي قصة عجيبة جرت منذ نصف قرن من الزمان لكن لا بد من روايتها، فلقد حكى لي صديقي محمد الشربيني الفندقي المحترف قصة وقعت خلال تدريبه في فندق عمر الخيام القديم قبل تشييد ماريوت وخدماته الحديثة التي نستمتع بها اليوم. التقى محمد خلال التدريب في الفندق وزير النفط العراقي السابق الذي بادره بسؤال: - أريد خدمة يا أخ محمد - اتفضل - ابني في مثل عمرك تقريبا.. ما رأيك في أن تصحبه ليزور بعض معالم القاهرة؟ - بكل سرور. اصطحب محمد الشاب العراقي الذي عبر معه كوبري أبو العلاء التاريخي وسأله عما يريد مشاهدته في القاهرة، حيث إنهما كانا على أعتاب حي الزمالك الشهير الذي يسكن فيه عبدالحليم حافظ وكوكب الشرق أم كلثوم ولفيف من نجوم الشاشة الفضية والإعلام والصحافة. ثم سأله محمد عن الأماكن التي يحب أن يزورها: - بصراحة عايز ادخل قهوة مصرية - تمام.. تحت أمرك.. تحب نروح جنينة الحيوانات بعد القهوة؟ - بعدين.. بعدين صحبه إلى مقهى شعبي يعج بالرواد ويطل على صفحة النيل الخالد وسأله عما يريد أن يشرب فأجاب بحماس شديد (شاي). حين أقبل الجرسون وهو يحمل صينية المشروبات التفت الشاب في غضب وصاح: - دا ما قلش واحد شاي وصلحه يا معلم - تقصد إيه؟ - دا شاي عادي.. ما قلش واحد شاي وصلحه. اكتشف محمد أن الشاب العراقي لن يشرب الشاي إلا إذا صاح الجرسون (وعندك واحد شاي وصلحه يا معلم!). كما اعتدنا أن نشاهد في الأفلام والمسلسلات المصرية في الزمن الجميل والتي كان بطلها عبدالفتاح القصري وإسماعيل ياسين. تقدم محمد إلى الجرسون ونفحه بقشيشا مناسبا وطلب منه أن يصيح «وعندك واحد شاي...» عند تقديم أي مشروب خلال وجوده مع صديقه في المقهى البلدي. تذكرت هذه القصة المسلية حين فرغ مخزون الشاي لدي وقد أهداني صديق خليجي وافد إلى مصر المحروسة صندوقا من الشاي الشهي المذاق. بعد زمن طويل فرغ الشاي الذي كنت احرص عليه حرص «لقمان على لبد والنسور الأُخَر» وفقا لقصيدة أمير الشعراء أحمد بك شوقي. احترت وتوجهت إلى الأسواق أفتش عن شاي عالي الجودة كما تخيلت من مراجعة العلامات التجارية التي دفعت مقابلها مبلغا باهظا. توجهت إلى الدار كأني قد استحوذت على إيوان كسرى وصببت الماء المغلي على لفائف الشاي فإذا بلونه كأنه قطع من الليل الداكن. أضفت قليلا من العسل ورشفت الشاي الذي خلا من الطعم والذوق والرائحة فشعرت بألم مرير وندم غزير. عدت أقلب في صندوق الشاي الفارغ الذي تلقيته من صديقي وشعرت كأني قيس يطوف بدار ليلى «يقبل ذا الجدار وذا الجدار». أي مذاق فاسد يحمل علامة دولية عريقة فلا هو شاي ولا مشروب صالح لاستهلاك البشر.. ربما تغير مذاقي أنا.. لا أدري. انقضى أسبوع والتقيت صديقي حسام الذي أرشدني إلى أحد الأسواق الفاخرة وخلال تجوالي عثرت على أنواع من الشاي العريق فطرب قلبي ورقص فؤادي. أخيرا سوف أحتسي شايا يعيد إلي ذكريات الزمن الجميل والعش الظليل فلا أبكي على ليلى ولا أحزن على لقمان.. قررت أن أشتري شايا كيني المنشأ حيث فشل شاي الهند وسريلانكا بسبب الغش الذي أصاب العلامة التجارية. ولما كانت المصائب لا تأتي فرادى فلقد اشتريت عدة صناديق من الشاي الكيني الذي اعتدت أن أجلبه لأصدقائي حينما أغادر خارج مصر المحروسة. توجهت إلى المطبخ وألقيت بالشاي المغشوش الذي اشتريته منذ أسابيع وانشرح فؤادي أثناء إعداد الشاي الكيني الذي سوف يعيد إلي الثقة في عالم الجودة والعشق والروعة والخيال. انتابني هلع شديد، حيث اكتشفت أن لون الشاي الكيني الفاخر يطابق تماما الشاي الذي جلب لي التعاسة والملل من قبل. قررت أن أضيف ملعقة من العسل الأبيض فربما كانت المظاهر خادعة والمثل الإنجليزي يؤكد أن «الجودة في المذاق» وليس في المظهر الخادع البراق. لا أدري مقدار الغضب الذي اعتراني حين اكتشفت أن الشاب الكيني المغشوش هو توأم الشاي الآسيوي المغشوش الذي ألقيت به في اليم. أفكر في التوجه إلى سفارة كينيا أو أقدم شكوى لاتحاد منتجي الشاي الإفريقي... وربما ألجأ إلى مؤسسة Amazon.com وأقص عليهم مأساة الشاي المغشوش الذي أفسد حياتي وشوه إبداعاتي. سوف يرق قلب السيد الرئيس التنفيذي المعروف Jeff Bezos وخاصة بعد أن دفع تسوية مالية مذهلة لمطلقته الثرية الطروب ويطلب لي «واحد شاي وصلحه يا معلم!».
مشاركة :