نهاد صليحة ناقدة في المسرح

  • 10/20/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

الحديث عن الناقدة المسرحبة الدكتورة نهاد صليحة يطول ويطول، ويحتاج لملفات وملفات حيث تنوع إنتاجها ما بين النقد النظري والنقد التطبيقي، فقد تتلمذت على يديها في قسم النقد بأكاديمية الفنون في تسعينات القرن الماضي، إلا أن رحلتها مع التجريب المسرحي هي الأبرز فقد كانت أسعد الناس ببدء مهرجان المسرح التجريبي عام 1988 وانطلقت في الكتابة النقدية والندوات ولجان التحكيم على مدار كل دورات المهرجان لعل الدورة الأخيرة لها عام 2016 كانت هي الأبرز فقد كانت في مرحلة من صراعها مع المرض إلا أنها كانت حاضرة شتى الفعاليات في درس نظري وعملي لكل الأجيال لذلك اقتطف بعض ثمرات هذه الراحلة. وجمعت نهاد صليحة رحلتها مع التجريب في كتاب “عن التجريب سألوني”. لم يكن مصطلح المسرح التجريبي شائعاً آنذاك، بل كانت كل التجارب الإبداعية الجديدة سواء على مستوى النص الدرامي أو العرض المسرحي تندرج تحت لواء “المسرح الطليعي” وتوصف بأنه تجارب طليعية. وقد حظيت هذه الموجة التجريبية (أو الطليعية) الأولى باهتمام النقاد والباحثين الذين تناولوها بالوصف والتحليل والتقييم، وأثروا المكتبة العربية بكمّ هائل من الدراسات التي رصدت ملامحها وتياراتها المختلفة، وأبرز إنجازاتها، وأهم الشخصيات التي ساهمت في تشكيلها. وتلت هذه الموجة الأولى من التجريب المسرحي فترة ركود نسبي توارت فيها كلمة التجريب عن الأنظار، أو كادت، ولكنها عادت لتفرض حضورها بإلحاح على وعي المبدعين المسرحيين -وخاصة الشباب- منذ تأسيس مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 1988 الذي واكب موجة ثانية من التجريب المسرحي ظهرت بشائرها قبل ذلك بسنوات قليلة أي في منتصف الثمانينات. ورغم أن هذه الموجة التجريبية الثانية مازالت مستمرّة معنا، وقدمت لنا حتى الآن حصاداً طيباً من التجارب المسرحية المتميزة والفنانين المبدعين، فإنها لم تنل مثل حظ سابقتها من العناية النقدية، بل إن مصطلح التجريب نفسه لا يزال غامضاً ومبهماً لدى البعض ومثار جدل حاد واختلاف عميق بين الكثيرين. ومن ثمّ كان هذا الكتاب الذي يسعى إلى استجلاء مفهوم التجريب في سياقاته العربية والعالمية، كما يهدف إلى إلقاء الضوء على عدد من التجارب المسرحية الهامة التي ساهمت في تكوين الموجة التجريبية الثانية في المسرح المصري في مجال التأليف والإخراج. وقد حاولت الناقدة والأكاديمية المخضرمة د. نهاد صليحة أن تساهم في التحليل والتقييم النقدي لتلك الموجة التجريبية وقد قسمت الكتاب إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول: بعنوان “حول مفهوم التجريب” ويضم أكثر من نقطة فرعية تبحث في ماهية التجريب المسرحي، بتساؤلات ذكرت أنها أولية لكنها انطلقت كالسهام في قلب القضية التجريبية. تسأل عن أي مسرح تجريبي؟ وعن أي ظرف تاريخي وجغرافي؟ فالمؤلفة أرادات أن تشير إلى أنه هناك فارق واضح ما بين الدول النامية والدول المتقدمة خاصة في الطبقة الثقافية والاحتياجات الثقافية التي فرضها الظرف التاريخي خاصة وأن حال التجريب في الغرب كما وضحته المؤلفة هو قوامه الخروج على المؤسسات ويسعى دائماً إلى ربط الفن بالحياة، أما التجريب في دول العالم الثالث فيخضع إلى مؤسسات الدولة حيث أن هذه المحاولات التجريبية بدأت تستأنسها الأنظمة وتكيفها عن طريق النقد. لذلك برز اتجاهان اثنان في التجريب الغربي أولهما الاحتجاج الأخلاقي والإنساني على تراث التنوير والعقلانية، ومحاولة العودة بالمسرح إلى الحلم والأسطورة، ويمثل هذا التيار المخرج الفرنسي أنتونان أرتو والمخرج البريطاني بيتر بروك والمخرج البولندي جروتوفسكي. أما الثاني فهم الاجتياح السياسي والاجتماعي ويمثله المخرجان بيسكاتور وبريخت والفرنسية أريان مينوشكان والسؤال الملحّ فعلاً هو ماذا لو هيمن اتجاه على الآخر؟ وها هو موقف التجريب العربي. ثم انتقلت الكاتبة إلى نقطة أخرى حيث إشكالية التجريب المسرحي الطليعي. والجدل حول كلمة “طليعة” في الفن فهي الخروج والتجاوز وكسر التقاليد والأعراف السائدة في مجال الممارسات الفنية، وارتياد المجهول بحثاً عن أنساق وقيم جديدة لإقامة جسر وتواصل بين الحاضر والمستقبل. لا عجب إذن أن يرتبط مفهوم الطليعية بمفهوم التجريب في المسرح، سواء كان تجربة معملية واعية مدروسة كما كان الحال عند جروتوفسكي وقبله ستانسلافسكي على سبيل المثال، أو إبحار غريزي وحدسي يولد من رحم فترات الانتقال التاريخية كما كان الحال عند شكسبير، أو ثورة محمومة تعارض واقعاً إنسانياً محبطاً دون تبصّر بعواقب هذه المعارضة، ودون تصور لبديل هذا الواقع، كما نجد في حالة بيكيت ومن قبله الدادائيون، أو ثورة يقودها اختيار أيديولوجي مغاير كما كانت ثورة بيسكاتور وبريخت وغيرهم من كتاب الفكر اليساري. لكن تظل الطليعية في كل الأحوال ثورة على الكائن سواء اكتفت بتدميره كما تصور الدادائيون، أو سعت لإحلال جديد مكانه كما فعل السيرياليون بعدهم وغيرهم كثيرون من قبل وبعد. كذلك تظل الطليعية مفهوماً يتجاوز مجرد الأشكال والصيغ والأساليب، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بفترات الانتقال الحضارية والتاريخية، وما يصاحبها من أزمات وإحباطات وتوترات وأحلام وأشواق في مجال الفكر والثقافة. ورغم ذلك لم تبرز كلمة الطليعية على ساحة المسرح العربي حتى الستينات، واقترنت في الأذهان بموجات التجريب الجديدة في المسرح التي كانت في معظمها انعكاسات لتجارب غريبة مثل المسرح الملحمي والتسجيلي ومسرح العبث، لكن كلمة الطليعة أو الطليعية، بظلالها السياسية الكثيفة، لم تلبث أن توارت لتحل محلها كلمة التجريب، ربما لتغير المناخ السياسي في العالم أجمع لا في العالم العربي وحده. ثم حاولت الكاتبة البحث عن معنى التجريب وتجلياته في المسرح العربي خاصة وأن التجريب لفظة جديدة تعبر عن ممارسة جدلية قديمة تتحقق بصورة دورية في لحظات ثورة العقل وتنوير الوعي وفي مجال المسرح العربي. ولقد مرّ التجريب في مجال المسرح العربي منذ الخمسينات وحتى السبعينات بمرحلتين واضحتين: أما المرحلة الأولى فكانت مرحلة الثورة على القديم والموروث، والإبحار في علوم المسرح الحديثة وتجاربه العالمية، ومحاكاتها بحثاً عن لغة مسرحية جديدة، فوجدنا المسرحيين العرب يجربون صيغاً أوروبية حديثة مثل الواقعية الاشتراكية، والملحمية البريختية، والمسرح التسجيلي، والتكعيبية البيرانديلية، ومسرح العبث، مسرح القسوة وغيرها، ورغم أن هذه الممارسات المسرحية، على ثرائها وجدتها، لم ترتبط بنظرية فكرية وفنية متكاملة، فلم يتولد منها مسار تجريبي عربي واضح المعالم آنذاك، إلا أنها ساهمت في إرساء الوعي بخصوصية اللغة المسرحية في تعددها وتراسلها، وفي تحرير الممارسة المسرحية العربية من أغلال الواقعية البرجوازية، والميلودراما، والفودفيل، والنظرة الكلاسيكية الأرسطية، فمهدت لانطلاق المسرح العربي إلى مرحلته التجريبية التالية، التي بدأت في منتصف الستينات، والتي ركزت جهودها، على مستوى الممارسة والنظرية، في البحث عن صيغة مسرحية عربية تجمع بين الأصالة والمعاصرة. أما التجريب الأوروبي فحمل صيغة “اندحار الكلمة” حيث العروض التي بدأت تتخذ موقفاً معادياً من اللغة المنطوقة، لغة الحوار والفكر كما فعل بيكيت ويونسكو، وتسعى إلى تهميش الكلمة أو تفريغها من مضمونها، أو نفيها من المسرح تماماً، أو استبدالها بتراكيب صوتية جديدة تشتبك مع تشكيلات حركية كثيفة وموحية، وبدأ مسار جديد يهتم بالمحيط البصري والمادي للعرض المسرحي حيث سينوغرافيا العرض وحركة الممثل في الفراغ المسرحي. وتنهي الناقدة د. نهاد صليحة هذه النقطة بسؤال: ماذا عن مستقبل الكلمة في المسرح التجريبي العربي؟ لكن للأسف انحصر دور المسرح التجريبي العربي ما بين حضور الجسد وغياب الكلمة دون إمعان النظرة في أن تهميش الكلمة في المسرح الغربي ذاك نتيجة تيار فلسفي خاص بالغرب وحده. واختتمت د. نهاد صليحة الجزء الأول من الكتاب بعنوان فرعي هو “النقد المسرحي والمسرح التجريبي”. إن الحكمة النقدية تقتضي أن يدرك الناقد أن القواعد والتقاليد التي تحكم الإبداع قد تتغير من مكان إلى مكان ومن زمن إلى آخر، وأنها ليست مقدسة وليست ذات صلاحية أبدية. ولذا فعليه حين يتصدّى لتناول الأعمال التجريبية أن يستقبلها بصدر رحب، دون فرضيات أولية مسبقة عمّا يجب أن تكون عليه، وأن يتقبّل خروجها على المألوف وتكسيرها لأنماط التوقعات لدى المتفرج، وأن ينطلق في فهمه وتحليله وتقييمه لها من واقع بنائها الخاص ورؤيتها والمقدمات التي تنطلق منها وهذا لا يعني بالطبع أن على الناقد أن يمتدح كل عمل يرفع شعار التجريب ويقدم نفسه من خلاله، فالعديد من الأعمال التي تضع لافتة التجريب على صدرها أعمال سطحية رديئة، تفتقر إلى الجرأة والابتكار، ويعيبها التكلف والشكلانية، بل والسذاجة أحياناً. أما الجزء الثاني من الدراسة فجاء تحت عنوان “نماذج من التجريب في التأليف المسرحي لدى كل من محسن مصيلحي-محمود أبو دومة-محمود نسيم -فاطمة قنديل”. أما القسم الثالث والأخير من الكتاب فخصصته المؤلفة لعرض نماذج من التجريب في الإخراج والعرض المسرحي “أحمد إسماعيل ومحسن حلمي ومحمد عبدالهادي ومنى ندا”. نهاد صليحة وتبني التجارب الجادة هي الأم بكل ما تحمل الكلمة من معنى ودلالات في مشروعها النقدي أخذت على عاتقها مسؤولية دعم التجارب الجديدة والجادة. فها هي تسافر لأبعد قرى الريف المصري لمشاهدة عرض مسرحي تجلس القرفصاء على الأرض بين الجماهير، تفترش الأرض في بساطة وتواضع فتنقّب وتبحث عن الجاد للأخذ بيده ويا لها من سعادة غامرة تعتريها وهي تكتشف مخرجا جديدا أو ممثلا ناشئا مميزا، وكأنها وجدت ضالتها، لتحتفي بهذا الجديد الجاد فوق الصفحات النقدية في المجلات أو الجرائد أو حتى بين جنبات الكتب. وأيضاً قدمت نهاد صليحة العديد من النصوص المسرحية الجادة لعل أبرزها مسرحيات لكل من محمود نسيم وسامح مهران وحمدي عبدالعزيز. كما تبنت العديد من التجارب النقدية المميزة أبرزها تجربة سامية حبيب ومحمد سمير الخطيب وحاتم حافظ، وكان معها كل الحق في تبني مثل تلك التجارب التي أفرزت هذه الأسماء وغيرها ممن يمثلون أبرز نقاد المسرح المصري. تلك ومضة خاصة جداً بالنسبة إليّ، فقد كنت مغرماً بمشاهدة استمتاع وتركيز نهاد صليحة في العروض المسرحية، كنت أراقبها وألاحظها باهتمام، حتى مشاهدة العروض المسرحية علمتنا إياها. حقاً إنها نهاد صليحة، إنها النقد المسرحي عندما يتحول إلى مشروع.

مشاركة :