حذر عدد من علماء الشريعة الإسلامية وأساتذة الاقتصاد الإسلامي من شيوع الاستدانة في بلادنا العربية واندفاع الشباب للحصول على قروض من البنوك من دون حاجة إلى ذلك الأمر الذي أثقلهم بديون تتزايد مع فوائدها ويعجز كثير منهم عن الوفاء بها، ما يعرضهم لعقوبات تحول حياتهم وحياة أسرهم إلى غم ونكد دائمين . وأوضح هؤلاء العلماء والأساتذة أن ثقافة الادخار غائبة عن حياة كثير من شبابنا، ورغم أهميتها لم تنل نصيبها من الانتشار والوعي في المجتمعات العربية، وطالبوا بحملات توعية شرعية وقانونية واقتصادية واجتماعية بمخاطر الاستدانة من دون ضرورة حقيقية وما يترتب على ذلك من إجراءات وعقوبات . عرضنا مشكلة الاستدانة التي تتصاعد وتتنوع تداعياتها الخطيرة دينياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً على مجتمعاتنا على مائدة عدد من علماء الشريعة وأساتذة الاقتصاد الإسلامي والاجتماع . . فماذا قالوا؟ البداية مع أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر، د . محمد نبيل السمالوطي، الذي يرجع مشكلة الاستدانة التي تتزايد في بلادنا العربية بين الشباب إلى التقليد الأعمى والتربية الخاطئة والسفه الاستهلاكي الذي نربي أولادنا عليه منذ الصغر، ويقول: انتشار ثقافة الاستدانة بين نسبة كثيرة من شبابنا وتعريض نفسه لمشكلات يرجع إلى نمط الاستهلاك السفهي الشائع في بلادنا العربية، وعدم تربية أولادنا على الاعتدال في الإنفاق كما حثنا ديننا وكما تحتم علينا مشكلات الحياة وما فيها من ضغوط اقتصادية . الوعي الغائب ويضيف: نلاحظ غياب الوعي بقيمة الادخار بين الشباب، ونلاحظ أيضاً استهانة كثير منهم بخطورة الاستدانة من دون ضرورة، وإن كانت المؤسسات الاقتصادية- خاصة البنوك والشركات التي تفضل البيع بالتقسيط (الآجل) لكي تجني أرباحاً أكثر- تساعد على ذلك، حيث تقدم إغراءات للشباب لكي يستدين ويشتري أو يتورط في شراء ما لا تسمح به ظروفه وموارد دخله، ثم ينضم بعد ذلك إلى قوائم المتعثرين الذين يستغيثون بكل الذين يحيطون بهم قبل صدور أحكام قضائية بحبسهم أو فرض غرامات تأخير عليهم ومضاعفة أعبائهم المالية . ويرجع الخبير الاجتماعي والتربوي مشكلة الاستدانة وما ينجم عنها من تداعيات ومشكلات إلى أسلوب التربية الخاطئ داخل الأسرة، ويقول: للأسف كثير منا لم يربِ أولاده على الاعتدال في الإنفاق وعلى فضيلة الادخار لوقت الحاجة، بل إن بعض الأسر من محدودي الدخل تعاقب أطفالها على ادخار بعض مصروفاتهم أو بعض ما يدخرونه من حصيلة أعمالهم عن طريق مصادرة ما يجدونه معهم أو اقتراضه وعدم سداده لهم، وهذا السلوك في حد ذاته يدفع الصغار إلى عدم ادخار بعض ما لديهم من مال . وهنا يطالب د . السمالوطي بضرورة الوعي بخطورة النمط الاستهلاكي السفهي داخل الأسرة على الأجيال الجديدة، ويطالب بتربية الصغار على قيمة "الادخار" وتشجيع الأطفال منذ الصغر على ادخار بعض مصروفهم اليومي لوقت الحاجة مؤكداً أن غرس قيمة الادخار في نفوس الصغار مهم جداً لتربية أجيال تتحمل المسؤولية في المستقبل وتحسن التعامل مع المال . كما يطالب الخبير الاجتماعي الأزهري وسائل الإعلام والإعلان بالكف عن نشر ثقافة الاستهلاك الترفي بين الشباب وإغرائهم بشراء منتجات أو سلع استهلاكية تفوق إمكاناتهم وأن تلتزم هذه الوسائل الإعلانية بميثاق الشرف الإعلاني الذي يؤكد أن هدف الإعلان هو تعريف المستهلك بالسلعة دون دفعه لشرائها وهو في غير حاجة إليها أو لا تسمح إمكاناته الاقتصادية بشرائها . مشكلة سلوك اقتصادي ويتفق المفكر الاقتصادي د . محمد عبد الحليم عمر، أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، مع د . السمالوطي بأن مشكلة شيوع الاستدانة التي تتزايد تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا العربية هي في الأساس مشكلة سلوك اقتصادي سفهي مرفوض دينياً واقتصادياً واجتماعياً، ويقول: ما كان لهذه المشكلة أن توجد وتتفاقم لو كان الرشد الاستهلاكي هو الذي يحكم سلوك المواطن العربي . ويضيف: الترشيد الاستهلاكي لا يعني فرض حالة من الكساد الاقتصادي في المجتمع، فالاقتصاد الإسلامي لا يقف في طريق إشباع الحاجات الإنسانية من الموارد المتاحة، فهذا هو هدف الاقتصاد في كل أمة، ونظراً لأنه لا يمكن للإنسان أن ينتج ما يحتاجه من سلع وخدمات لازمة لاستهلاكه، فإنه يحتاج إلى النقود لإنفاقها على شراء هذه السلع والخدمات، ومن هنا تظهر أهمية الإنفاق والاستهلاك في الاقتصاد، فهما يمثلان حجر الزاوية في الاقتصاد والعامل المتحكم والمحرك الأساس للنشاط الاقتصادي، وبقدر رشد الاستهلاك وكفاءة الإنفاق تتحدد كفاءة وفاعلية الاقتصاد على المستوى الأسري وعلى المستوى العام للمجتمع، ولأن قرار الإنفاق والاستهلاك قرار ذاتي، فإنه لا يمكن إصدار قوانين لإلزام الإنسان بالإنفاق أو الاستهلاك في وجوه معينة أو بكمية محددة، بل يتوقف الأمر على السلوك النابع من الإنسان ذاته بناء على التربية الدينية والخلقية من القناعة أو الجشع والطمع، ومن التعقل أو التهور ومن الكرم أو البخل، إلى غير ذلك من القيم المتحكمة في السلوك الإنفاقي والاستهلاكي للإنسان، ومن هنا تظهر حكمة الإسلام الذي اهتم بالإنفاق والاستهلاك اهتماماً كبيراً وشرع من الأحكام السديدة والتوجيهات الرشيدة ما يرفع من كفاءتهما ويحقق الفاعلية فيهما بشكل كبير، حيث تعددت الآيات القرآنية التي وضعت قواعد وضوابط الإنفاق الصحيح والاستهلاك المعتدل، وهي تزيد على مئة آية منتشرة في سور القرآن الكريم . ضوابط إسلامية ويشير أستاذ الاقتصاد الإسلامي بالأزهر إلى مجموعة من الضوابط الشرعية التي تحكم عملية الاستهلاك وتواجه السفه الاستهلاكي بكل صوره، وفي مقدمتها: التوازن في توزيع الإنفاق الاستهلاكي، فلا ينفق المسلم كل دخله، بل ينفق بعض الدخل، ويدخر جزءاً من الدخل للاستثمار، ويظهر ذلك في كل آيات الإنفاق التي تنص على أن الإنفاق يكون من الرزق وليس كل الرزق، مثل قوله تعالى: "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون"، ويجمع ذلك كله في كلمات جامعة قول الرسول صلى الله عليه وسلم "رحم الله امرأ اكتسب طيباً وأنفق قصداً وقدم فضلاً ليوم حاجته" . والمسلم مطالب شرعاً بترتيب الأوليات الشرعية في مجالات الإنفاق، بحيث يبدأ بالإنفاق على الضروريات، وهو الحد الذي لا تقوم الحياة من دونه، ثم الحاجات وهي: المستوى الذي تقوم به الحياة على وجه حسن، ثم التحسينات التي تقوم معها الحياة على أفضل وجه من رغد العيش والرفاهية . ويوضح د . عمر أن الاعتدال والتوسط هو منهج الإسلام في الإنفاق، بمعنى مراعاة الجوانب الكمية والكيفية في الإنفاق والاستهلاك، وهذا ما أمر به الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية، مثل قوله تعالى في صفات عباد الرحمن "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً"، وتترتب على مخالفة هذا التوجيه آثار مادية ونفسية سيئة منها ما ورد في قوله تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً" . ومن هنا فإن المسلم مطالب شرعاً بالبعد عن الإسراف، وهذا للأسف الكثير من المسلمين خاصة في الطعام والشراب والملبس، وتشهد على ذلك كميات الطعام التي تفيض وترمى في القمامة، ما يمثل إهداراً للموارد وعبثاً بنعمة الله . . كما أنه مطالب بالبعد عن التبذير وهو "صرف الشيء في ما لا ينبغي"، وهذا يتعلق اقتصادياً بسوء تخصيص الموارد، ما يؤدي إلى إهدارها من دون فائدة . وهذا لا يعني أن يقتر المسلم على نفسه وأهله ويحرم من الطيبات، حيث نهى الإسلام أيضاً عن التقتير، وهو: "صرف الشيء في ما ينبغي أقل مما ينبغي"، وهذا هو الشح والبخل الذي يؤدي اقتصادياً واجتماعياً إلى نقص الطلب وقلة الإنتاج وما يترتب عليهما من الركود والبطالة ثم الفقر والتفاوت بين طبقات المجتمع، وبالتالي الحقد والحسد وكل ذلك موارد للهلاك، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم" . التدبير الحكيم ودعا الإسلام إلى التفكر والتدبير الحكيم في أوجه وكميات الإنفاق والاستهلاك، ويرشدنا رسولنا الكريم إلى فائدة التدبير بقوله "التدبير نصف المعيشة"، ويحذرنا عليه الصلاة والسلام من الجري وراء الشهوات في قوله "إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيته" . ثم إن المسلم مطالب بمراعاة الإنفاق والاستهلاك في حدود دخله وإمكاناته الاقتصادية، فمن حكمة الله عز وجل وتقديره الحكيم أن فضل بعض عباده على البعض في الرزق ويرشدنا عز وجل إلى الإنفاق طبقاً لذلك فيقول سبحانه: "لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا" . هذا الاعتدال رسخه الإسلام في نفوس المسلمين جميعاً إلى جانب البعد عن استهلاك المحاكاة، الذي ينفق فيه الإنسان ليس لسد حاجة، وإنما تقليداً للآخرين، خاصة الأغنياء، فهذا سلوك منهي عنه شرعاً لقوله تعالى: "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، والبعد عن الاستهلاك التفاخري الذي ينفق الإنسان عليه لا لإشباع حاجة وإنما ليظهر أنه أفضل من الآخرين، وتلك الضوابط الإسلامية في الإنفاق والاستهلاك تضبط سلوك المسلم وتحميه من السفه الاستهلاكي الذي يعرضه للاستدانة وتكبيل نفسه بديون لا طاقة له بها وتجلب له الهم والغم بالليل والنهار وتعرضه لعقوبات هو في غنى عنها، خاصة أن سجون الدول العربية تزدحم بالغارمين الذين تورطوا في ديون عجزوا عن الوفاء بها . هدفان مترابطان الفقيه الأزهري، د . نصر فريد واصل، مفتي مصر الأسبق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، يؤكد أن الشريعة الإسلامية ترفض استدانة المسلم من دون حاجة، ولذلك يضم صوته إلى أصوات الاقتصاديين الإسلاميين الذين يحذرون من انتشار الاستدانة في بلادنا العربية، ويقول: تراجع ثقافة الادخار يؤدي إلى زيادة القروض الشخصية ويعرض بعض المدينين للتعثر نتيجة ضعف دخولهم وعدم قدرتهم على تحقيق التوازن بين دخولهم والتزاماتهم . والادخار في نظر الشريعة الإسلامية كما يقول د . واصل مطلب شرعي، حيث يقوم منهج الإسلام على قاعدة: (لا إسراف ولا تقتير) بل ترشيد واعتدال في الإنفاق، وهذا المنهج الإنفاقي يحقق هدفين مترابطين ومتلازمين، هما: ترشيد الاستهلاك وزيادة الادخار في الوقت نفسه، فالإنسان وفق هذا المنهج لن ينفق إلا على ما هو في حاجة إليه وسيؤدي ذلك إلى توفير جزء من ماله وادخاره لوقت الحاجة مع استثماره ليعود عليه وعلى المجتمع بالفائدة، حيث حث الإسلام على إدارة الأموال واستثمارها، وهو بذلك يحث على الادخار لصالح الفرد والأسرة والمجتمع .
مشاركة :