الانتفاضة اللبنانية مع إيقاعات الدبكة

  • 10/24/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لا تخرج الشعوب من حاجز الخوف وخريفه إلا اذا عضَّ الجوع معدة الانسان. هكذا انتظر اللبنانيون لسنوات وعود حكومة عهد الجنرال ميشيل عون، سنوات والوضع في تدهور متواصل متنقلاً مع حكومته من أزمة موجعة الى أزمة مستفحلة، ومن خلل في بنية النظام الكهربائي والطاقة الى حالة التردي في البنية التحتية وتكدس القمامات في وسط بيروت العاصمة.  وقد باتت كل الوزارات والمرافق «تتنافس» في حالة التقهقر الخدماتي والتسيب الإداري مع حالة نهب عام وفساد مزدهر، في وقت تتردى فيه معيشة المواطن اللبناني مع تلك الأجور المتدنية في ظل ارتفاع مستمر في الضرائب.  هذه الأوضاع المعيشية السيئة التي مست حتى الطبقة الوسطى لتصبح شريكًا في المحنة مع الطبقات الشعبية الكادحة، فاتسعت رقعة الاحتقان والسخط والاستياء العام في كل أنحاء لبنان، حتى بلغ السيل الزبى فاندفعت الجماهير المقهورة المحتقنة والمأزومة نحو الشوارع والساحات لتسمع العالم قبل أن تسمع حكومتها النداء الموحد والهتاف المنسق والمنسجم بين جميع الاتجاهات الشعبية، حيث تمركزت الهتافات حول «الفساد والمفسدين» وبضرورة رحيل الحكومة ومحاسبة ومحاكمة المفسدين.  في هذه الأجواء الاحتجاجية اللبنانية استيقظ الهتاف التاريخي بزمن الربيع العربي «الشعب يريد إسقاط النظام»، حتى بتنا نراه كالشبح المعلق على غرف نوم الحكومات والانظمة والمفسدين، فتنام القلوب المرتجفة على وقع الانفجارات المفاجئة للانتفاضات الشعبية.  هكذا جعلتنا حشود شعبية لبنانية في موسم الخريف بين أشجار جبالها العالية ونوافذها المزدانة بزهوره، أطربتنا حشود الساحات بدبكات الفرح اللبناني ليخرج لنا الشارع الشعبي هناك خزان خبرته الطويلة في العصيان المدني وقدرته وسرعته في تنظيم المسيرات والتجمعات والنزول للشوارع من كل الاتجهات.  ما يميز انتفاضة خريف عام 2019 هذه المرة عن سائر الانتفاضات والتظاهرات هو إنها انطلقت وتلاقت مناطق الجنوب بالشمال والجبل والسهل والساحل، تلاقت صور وطرابلس وبيروت والبقاع والنبطية، فتم تهشيم أيقونة الزعامات التاريخية وتم تجاوز عبادة طاعتها العمياء، ولأول مرة في تاريخها تسمع آذانها وتشهد عيونها شتائم وسباب وإهانات إزاح غمامة التاريخ الاسود.  ما ميّز هذه الانتفاضة الشعبية إنها تخطت حواجز القدسيات الطائفية والجهوية والحزبية ملتحمة في وحدة شعبية متماسكة ضد سلاطين القوة والسلطة في حكومة المليشيات والطغم الفاسدة.  الجميع من الأحزاب اكتشف في ساعات نومه العميق إن حركة الشارع كانت أسرع منه وأكثر نقمة وغضبًا فكان لابد منه اللحاق بها ليصبح جزءًا منها وشريكًا فاعلاً في داخلها إلا تلك المليشيات المأجورة في حركة أمل التي حملت السلاح لتهديد المتظاهرين في قلاعهم ومكان هيمنتهم، غير أنهم انكمشوا بسرعة بعد أن هاجت الجماهير ضدهم دون تردد او خوف.  لم تجد لغة السلاح ولا خطابات التلويح باستعمال القوة وتغيير «المعادلة» كما أشار حسن نصر الله، فالمغامرة لن تكون نافعة هذه المرة بعد أن فشلت حكومته مع العماد في إدارة البلاد وانتشالها من أزمتها العميقة.  اختفت هذه المرة من فضاء الساحات اللبنانية المنتفضة الأعلام الصفراء والسوداء والحمراء وانفرد العلم اللبناني الوطني كتعبيرٍ عن سيادة الوطن ووحدته.  هذا التعبير السياسي المميز حمل من الدلالات معاني كثيرة باستقلالية القرار اللبناني وسيادته عن التدخلات الخارجية التي تعيث فسادًا في دول المنطقة.  فقد ظلت الدبكة اللبنانية وحدها في الساحات فرحًا جماعيًا لوحدة الشعب ومصيرة.  المعركة ما زالت في بدايتها والشد والجذب مستمر وكامن يقظ كالذئب بين القوى المتصارعة، والتخلي عن السلطة والحكم لمن يسرقون ثروة البلاد مسألة حياة او موت، وقد تقود في لحظة ما البلاد الى حمام من الدم في مجتمع منقسم وطائفي ومسلح مدعوم من عتاة الخارج.  لا ينبغي علينا استسهال تلك الأظافر السوداء الخفية في صمتها المريب، فهل يحسم الجيش مع التكنوقراط الأزمة ويبرهن جميع اللبنانيين القبول بلعبة الديمقراطية والتغيير السلمي للنظام، ويتجنب الجميع حمام الدم والعنف وتعود الدبكة اللبنانية لعهود الفرح الزاهر للوطن.

مشاركة :