د. غسان العزي منذ سقوط الرئيس زين العابدين بن علي في بداية عام ٢٠١١ دخلت تونس في مسار تحول ديمقراطي بحثاً عن عقد سياسي واجتماعي جديد للجمهورية التونسية الثانية. وقد أخلى نظام الحزب الواحد مكانه لتعددية حزبية تنافسية على السلطة عن طريق صناديق الاقتراع. وفي ٢٣ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١١ ذهب التونسيون بحماسة، في أول استحقاق انتخابي لهم بعد الثورة، إلى انتخابات «المجلس الوطني التأسيسي» التي شهدت فوزاً ساحقاً لحركة النهضة الإسلامية التي كانت محظورة؛ إذ فازت ب٨٩ مقعداً من مقاعد هذا المجلس ال٢١٧. ثم انتخب هذا المجلس اليساري القومي المنصف المرزوقي زعيم حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» (٢٩ مقعداً) رئيساً للجمهورية، في حين كلف حمادي الجبالي، نائب زعيم النهضة بتشكيل الحكومة. هذا المجلس التأسيسي أقر دستوراً جديداً للبلاد، في ٢٦ يناير/كانون الثاني ٢٠١٤، يمنح البرلمان والحكومة صلاحيات واسعة على حساب رئيس الجمهورية، ويقر المناصفة بين الرجال والنساء في المجالس المنتخبة. وقد تخلى إسلاميو النهضة عن السلطة، بعد عام حافل بالاضطرابات السياسية واغتيال شخصيتين سياسيتين وأعمال إرهابية، لمصلحة حكومة تكنوقراط.في ٢٦ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٤ كان التونسيون على موعد مع أول انتخابات تشريعية بعد ثورة الياسمين،هذه الإنتخاباتقادت إلى نوع من الثنائية الحزبية بين إسلاميي النهضة المحافظين و«البورقيبيين الجدد» أي حزب نداء تونس. هذه الثنائية تحولت بسرعة إلى حالة من الضبابية السياسية العامة في البلاد وفي مجلس الشعب الذي انقسم بين تحالفات سياسية غير واضحة المعالم. فقد قرر الحزب الأغلبي، الحكم على قاعدة ائتلاف عريض؛ وهو ما أضاع خطه السياسي في وقت كان التحالف غير الطبيعي، باسم الوحدة الوطنية، بين النهضة و«نداء تونس» سبباً لعرقلة عمل الحكومة ناهيك عن الخلافات داخل «نداء تونس» التي وصلت إلى حد معارضة رئيس الوزراء يوسف الشاهد الذي عينه السبسي بنفسه. هذا الأخير توفي في الصيف الماضي دون أن يترك أي إرث سياسي، أما يوسف الشاهد فخاض غمار معركة رئاسية خاسرة. هكذا انتهى حزب «نداء تونس».المعركة الانتخابية الأخيرة، التشريعية ثم الرئاسية، شهدت تنافساً محتدماً بين أكثر من 25 حزباً، وتميزت بالوعود البراقة التي قدمها معظم المرشحين في خطابات شعبوية تبسيطية كان لها أصداء واسعة جداً في وسائل الإعلام. انتهت الانتخابات الرئاسية التي تنافس فيها ٢٦ مرشحاً بفوز أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد ب(٧٢،٧١٪) في الدورة الثانية منها، وذلك بنسبة مشاركة إجمالية بلغت ٥٥٪ أعلى من تلك التي سجلت في الدورة الأولى من الانتخابات نفسها (٤٩٪) ومن الانتخابات التشريعية التي سبقتها(٤١٪). وبذلك يصبح سعيّد، ثاني رئيس ينتخب بالاقتراع الشعبي المباشر منذ الثورة، وهو الذي يتبنى أفكاراً محافظة لا تستند إلى مرجعيات دينية أو عقائدية أو حزبية على الإطلاق.وهكذا انتخب التونسيون «الأستاذ» كما يلقبوه، الذي يفتقر إلى التجربة السياسية والذي لم ينتخب في حياته، كما قال، ولم ينتم إلى أي حزب سياسي. لكن المشكلة أن الانتخابات التشريعية التي جرت قبل الرئاسية بشهر واحد أتت ببرلمان تتقاسمه قوى سياسية عدة يتقدمها حزب النهضة (٥٢ مقعداً) الذي خسر ٧٠٪ من شعبيته منذ عام ٢٠١١ (وقتها حصل على ١.٧ مليون صوت واليوم على حوالي ٥٠٠ألف) يليه حزب «قلب تونس» الذي يتزعمه نبيل القروي الذي سجن بسبب قضية فساد، ثم الأحزاب الأخرى.على طاولة الرئيس الجديد، ملفات شائكة عدة، فالأولوية بالنسبة للتونسيين اليوم هو الوضع الاقتصادي والاجتماعي دون نسيان الحالة الأمنية بالطبع. فتونس تعاني ديناً عاماً يصل إلى ٧٠٪ من الناتج الإجمالي القائم، والبطالة تطال ثلث خريجي الجامعات الجدد، والدينار فقد ٣٠٪ من قيمته في السنوات الثلاث المنصرمة، ما يعني ارتفاعاً موازياً في كلفة الواردات وعجزاً متزايداً في الميزان التجاري. وهكذا تزداد معاناة الطبقات الفقيرة والمتوسطة إزاء مستوى معيشي يتراجع ومعه تتبخر الآمال التي انعقدت على ثورة الياسمين، فهل ينجح الرئيس الجديد في قلب المعادلة وإعادة الأمل إلى الشعب الذي منحه فوزاً ساحقاً في الانتخابات؟على الرغم من كل شيء يمكن القول: «إن التحول الديمقراطي التونسي يسير بطريقة جيدة. إنها ديمقراطية ناشئة ودستور جديد».
مشاركة :