حين يقال بأن الحياة جميلة فإن هذا كلام صحيح، لكن لا بد من معرفة أي حياة هي المعنية بذلك الوصف. كونك تتحرك وتتنفس فأنت كائن حي في الحد الأدنى المشترك مع النبات والحيوان والبكتيريا وكل الكائنات الحية. لكن «حياة الإنسان» لا تعني مجرد قدرته على التنفس، وتشير إلى شيء مختلف عن تلك الصفات المشتركة مع النبات والحشرات وبقية الدواب والهوام. ثورة الاتصال والمعلومات في العصر الحديث خلقت شيئا جديدا لم يكن مألوفا من قبل، وهو الحياة البديلة أو المزيفة أو التي لا يمكن «عيشها» في الواقع. وهي أعظم ما ابتلي به الإنسان المعاصر، لأنها إضافة إلى أنها غير حقيقية فإنها تسلب من الإنسان حياته الحقيقية أو تعزله عنها. إنسان العصر الحديث يكره أشخاصا لا يعرفهم، ويحقد على آخرين لم يلتق بهم ولن يفعل، ويحب أشخاصا لا يوجد لديه ما يثبت فعلا أنهم بشر حقيقيون. يغضب من أجل قضايا لا تخصه وينفعل لمواقف لا تؤثر فيه ولا في واقعه ولا في مستقبله. لا أعني الشعور الطبيعي الذي تحركه العاطفة الإنسانية تجاه المظلوم أو المضطهد ولا المحبة الفطرية للجمال والحق، فهذه أشياء تأتي ضمن «ضبط المصنع» والإعدادات الرئيسية للإنسان، لكن «إنسان وسائل التواصل» يمكن أن يقضي ساعات أو أياما من عمره يهاجم أشخاصا لا يعرفهم أو يسخر منهم ومن حياتهم لمجرد أن آخرين يفعلون ذلك. مزاجه، ومشاعره السيئة أو الجميلة تتحرك صعودا وهبوطا وفقا لـ «الترند»، وحسبما يقرره قادة القطيع الجدد أو من يسمون «مشاهير وسائل التواصل»، أما الحياة الحقيقية تتوارى تدريجيا وتختفي إلى الحد الذي ينسى فيه الإنسان ما هي الأشياء التي يحبها حقا وما هي تلك الأشياء التي يكرهها بنفسه دون أن يقاد إلى كراهيتها دون أن يشعر. الذين شاهدوا فيلم «ماتريكس» في أواخر التسعينات شاهدوه كفيلم خيالي لا يمكن أن يصبح واقعا، وللتذكير فإن قصة الفيلم عن واقع افتراضي صنع من قبل آلات تتميز بالإدراك بهدف تدجين الإنسان ليكون مجرد مولد للطاقة، وكان ذلك يتم عن طريق غرس شرائح في البشر لكي يصبحوا مسلوبي الإرادة خاضعين للروبوتات العملاقة داخل هذه المصفوفة. وهذا ما تفعله وسائل التواصل الآن حرفيا دون حاجة لزرع شرائح ولا خضوع البشر لعمليات جراحية قسرية، ليكونوا مجرد أدوات مطيعة لا تفكر ولا تحلل. وعلى أي حال.. الحياة الجميلة التي تتحدث عنها الأمثال وتمجدها القصائد هي الحياة الحقيقية، التي يحب فيها الإنسان بإرادة حرة ويكره بإرادة غير موجهة، ومعركة الإنسان الحقيقي هي معركته للحفاظ على عقله، أن يحاول بكل جهد وبكل طريقة ألا يسلمه لأحد بسهولة، أن يسخر حواسه وجوارحه للدفاع عن أسوار عقله الذي يتربص به الجميع؛ الأفراد والشركات والمنظمات والحكومات. وحين ينتصر في هذه المعركة سيعرف يقينا أن الحياة جميلة، وأنها تستحق أن تعاش.
مشاركة :