العبور إلى الأنوثة وتجاوز الموت والتطلع إلى المستقبل

  • 10/25/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لفت الفيلم البلغاري “الأخت” Sister نظري بشكل خاص ليس فقط لكونه التجربة السينمائية الثانية لمخرجته الموهوبة سفيتلا تسوتسوروفا بعد فيلمها الأول “العطش” Thirst، الذي حصل عام 2016 على جائزة أفضل فيلم بلغاري في المسابقة السنوية التي تنظمها الأكاديمية البلغارية بالإضافة إلى جائزة أفضل ممثلة، بل لكونه أيضا حصل على دعم مالي من مؤسسة الدوحة للأفلام. مما يدفعنا إلى التساؤل عن منطق منح الدعم لفيلم أوروبي دون الآخر. تماثيل أنثوية مثل الفيلم الأول للمخرجة، الذي كان يدور حول العلاقات الإنسانية داخل محيط الأسرة وما ينتج من صراعات ليس من الممكن التنبؤ بها عند احتكاك الأسرة بالعالم الخارجي. تمد المخرجة تجربتها على استقامتها في فيلمها الثاني “الأخت”، الذي يبدو عنوانه غامضا إلى حد ما، كونه ليس في الحقيقة عن الأخت بقدر ما هو عن الأسرة ككل من وجهة نظر الابنة الصغيرة المراهقة التي تدخل فيما يمكن أن نصفه بـ”المشاغبة” الطفولية مع شقيقتها دون أن تدرك عواقب مثل هذه المشاغبة. الأسرة تتكون من أم وابنتيها، أما الزوج فلا وجود له، ولكننا سنعرف عنه فقط قبيل نهاية الفيلم عندما تروي الأم كيف حملت منه ولماذا أخفت حقيقته عن ابنتيها. تعيش هذه الأسرة في منطقة غير محددة من ريف بلغاريا. الأم والبنتان تقمن يوميا بجلب التربة من الجبل باستخدام المعاول والجاروف، لكي تقمن بتحويلها إلى طين يمكن استخدامه في صنع تماثيل متنوعة صغيرة غريبة الشكل، للكائنات والحيوانات والنباتات، يمكن بيعها لراكبي السيارات التي تمر على الطريق حيث توجد الورشة والبيت. الأم شخصية عصامية شديدة التزمت.. والابنة الكبرى كاميليا (وهي شابة في عمر الزهور جميلة)، تعيش قصة حب مع رجل ضخم الجثة يكبرها في العمر، هو ميرو صاحب ورشة لقطع غيار السيارات المستعملة (سيتضح فيما بعد أنه سرق الكثير منها)، لكن ميرو في الحقيقة رغم اهتمامه الشديد بكاميليا ينظر إليها باعتبارها هدفا جنسيا فقط، لكن لا أحد يعرف حقيقة مشاعره، فهو يتعامل تارة معها كما لو كانت عاهرة، وتارة أخرى يجن جنونه عندما تكذب عليه شقيقتها الصغرى وتخبره أنها ذهبت إلى إيطاليا لتلحق بشاب تعرفت عليه عن طريق موقع فيسبوك. الابنة الصغرى المراهقة راينا هي محور الفيلم الذي تدور من حوله الأحداث. ويمكن اعتبار الفيلم دراسة لشخصية راينا الغريبة الأطوار التي تعيش سن العبور من الطفولة إلى الأنوثة، بكل ما يتضمنه من تقلبات وسلوكيات تتسم بالغيرة من شقيقتها تارة، والحنق على أمها تارة أخرة، والتمرد الشديد والرغبة في إثارة غيرة شقيقتها بالتقرب من ميرو ومحاولة إغوائه أيضا رغم ما تبديه من نفور شديد منه في البداية. إنها تبدو، وقد تأثرت كثيرا جراء تلك البيئة الساكنة التي تعيش فيها في غياب الأب، تمارس يوميا عملا أقرب إلى السخرة لحساب والدتها من أجل أن تستمر الحياة، تحاول استدرار عطف أي مسافر على الطريق يتصادف توقفه لشراء تمثال من تلك التماثيل الصغيرة الملونة، لكي تقص عليه كيف أن والدها مهرب مخدرات كبير كان يمتلك غواصة ملأها بالهيروين ثم اختفى، ولكن أصحاب المخدرات بحثوا عنه في كل مكان وحضروا إلى حيث تقيم مع أمها وأختها وقطعوا عنق الأم واعتدوا على الأخت ثم قتلوها، وأصبحت هي الآن وحيدة بائسة. هذا الخيال العجيب القاسي يتضح من المشهد الأول من الفيلم، ولكن سرعان ما نعرف أن القصة التي نسمعها ويسمعها هذا الرجل الذي لا نرى وجهه أبدا، هي من وحي خيال راينا من أجل أن يتعطف عليها الرجل ويمنحها بعض المال! فيلم جريء راينا فتاة غريبة الأطوار. وهي تشبه الأولاد في تكوينها الجسدي، بشعرها القصير وجسدها النحيل، لها عينان زرقاويتان جذابتان لكن مملؤتين بالعدوانية والخبث. وهي لا تتورع عن إيذاء كل من يقترب منها في خضم تعبيرها عن الغضب والشعور بالسأم والتمرد. لكننا مع مرور الأحداث سنكتشف أن لها قلبا من ذهب، وعاطفة إنسانية جميلة كانت تخفيها بتمردها وغضبها، وأنها أيضا قد بدأت تكتسب ملامح أنثى تودّع المراهقة وتتطلع أيضا للحب والجنس. غير أن تمادي راينا في الكذب يؤدي إلى تفاقم الأوضاع في محيط الأسرة، ويكاد ينتهي نهاية درامية سيئة لراينا وشقيقتها وأمها. والفيلم يكشف كيف تتحول راينا وهي شخصية مركبة، من العنف والغضب وتدبير المقالب واختراع الأكاذيب للإيقاع بين شقيقتها والرجل الذي تحبه، إلى الرقة والتعاطف حتى مع ميرو الذي يبدو أنها تكن له عاطفة خاصة كما لو كان قد أصبح في حياتها “الأب البديل”. وهي تبذل كل ما يمكن من جهد بعد أن يعتدي عليه اللصوص ويكسرون أضلاع صدره، لكي تنقله إلى المستشفى بل وتسرق مدخرات أمها لكي تدفع تكاليف الكفالة بعد القبض عليه بتهمة سرقة السيارات. من الخارج يبدو الفيلم تقليديا في سياقه العام ومسار السرد وأسلوبه الذي يجمع بين الميلودراما وأسلوب فيلم التشويق والإثارة مع التعليق الاجتماعي النقدي ولمسات واضحة من الكوميديا التي تتفجّر من بعض المواقف. لكن النظرة الأعمق للفيلم تكشف أنه عمل شديد الجرأة، يتجاوز كثيرا الفيلم التقليدي، فهو ليس فيلم رسالة، ولا قصة محكمة تخلص في نهايتها إلى حل ما بـ(التطهير،العقاب، التوفيق)، لكنه رغم ذلك يبدو شديد التماسك من حيث البناء السينمائي وبناء الشخصيات التي يمنحها السيناريو جميعها مساحات متوازنة للتعبير عن نفسها. من الجوانب التي تبرز في الفيلم، شأنه في ذلك شأن أفلام السينما البلغارية الواقعية الجديدة، جانب النقد الاجتماعي. إننا نرى مثلا رجل الشرطة المتقاعد الفاسد الذي تلجأ إليه راينا لإنقاذ ميرو من قبضة الشرطة لكنه يساومها على نفسها ويحاول اغتصابها أيضا، والطبيب الجراح الذي يقضي وقته في تناول الخمر وغناء الأغاني البذيئة متقاعسا عن أداء عمله، ومستشفى البلدة القريبة الذي يبدو مهجورا، وعندما يكتشف طبيب الاستقبال الوحيد أن التأمين الصحي لميرو قد انتهت صلاحيته، يطالبه بدفع مبلغ مالي لا يملكه شرطا لفحصه (في إشارة واضحة إلى ما طرأ على المجتمع بعد زوال الدولة الاشتراكية). وتبقى راينا الشخصية التي تستولي على اهتمامنا، بشخصيتها المتقلبة الغريبة، وميولها التي تبدو منحرفة لكنها سرعان ما تكشف الوجه الطفولي المحبّب الذي لا نملك سوى أن نتعاطف معه. وكما كان فيلم “عطش” يتميز بقدرة المخرجة نفسها على انتزاع أقصى ما يمكنها من الممثلين، يبرز هنا أيضا الأداء التمثيلي خاصة أداء الممثلة الشابة مونيكا نادينوفا في دور راينا، التي تستولي على اهتمامنا طوال الفيلم ببراعتها في التعبير والتقمص وفهم الشخصية بأبعادها المتعددة، وصمودها في اللقطات القريبة الكثيرة التي تبرز تعبيرات وجهها الذي يوحي بألف فكرة ومعنى، مثل أكثر الممثلات احترافية. فيلم "الأب" من بلغاريا أيضا عرض مهرجان لندن الفيلم البلغاري ”الأب” Bashtata ثالث أفلام الثنائي، كريستينا غروزيفا وبيتر فاشانوف، ورغم اشتراك الاثنين وهما زوج وزوجة، في إخراج الفيلم إلا أنه جاء متناغما لا يفلت منه خيط، ولا ينحرف عن مساره، رغم تعدد أساليبه بين التراجيديا والكوميديا في القالب المعروف بـ”أفلام الطريق”. من المأساة تنبع الكوميديا. ومن العلاقة بين الأب والابن، يلمس الفيلم ثيمات متعددة مثل الحياة والموت، الخرافة والعلم، الجيل القديم والجيل الجديد، الماضي والحاضر، ورغم تشابك كل هذه الثيمات، لا تغيب الإسقاطات الواضحة والتعليقات الساخرة على بلغاريا اليوم وما آلت إليه بعد زوال النظام الشيوعي. تتوفى والدة بافل (مصور أفلام الإعلانات) فيترك العاصمة وزوجته الحامل التي يخبرها أنه ذاهب في رحلة عمل، لكي يحضر جنازة والدته فالنتينا التي سنعرف أنها كانت في شبابها ممثلة، تشار ك في أفلام البطولات الشيوعية خلال الحرب العالمية الثانية. والد بافل هو فاسيل، وهو رسام، يصر على أن يلتقط بافل صورة لوالدته المتوفاة قبل إهالة التراب على نعشها. ثم يتحدث بحماسة عن رغبته في رسم صورة لها من شبابها وصورة لصورتها بعد وفاتها. صدمة الفراق تدفع فاسيل إلى الاضطراب والهلوسة، وتقوده وهو الذي يفترض أنه كان شيوعيا مخلصا،إلى الإيمان بفكرة التخاطب مع الموتى من خلال التسامي الروحي، وهو يتخيّل أن زوجته الراحلة تحاول الاتصال به، وأنها حضرت إليه في الليل، وتواصل إرسال إشارات غامضة، ولكن أكثر ما يعذبه أنها كانت قد حاولت الاتصال به قبيل وفاتها لكن الاتصال انقطع، كما تنقطع الكهرباء فجأة عن منزل الأسرة. أما الابن فهو يريد العودة إلى زوجته التي تطارده بالاتصالات وقد بدأت تشك في روايته، وهو لا يريد أن يخبرها بوفاة والدته حتى لا تتأثر وهي في ذروة الحمل. لكن حالة والده المضطربة تجعله يبقى معه ويخوض الاثنان مغامرة على الطريق، حافلة بالمواقف الطريفة التي تفجر الضحكات. نجح مخرجا الفيلم في استخراج الضحك من قلب موضوع مقبض يتعلق بالموت، سواء من خلال تجسيد التناقض بين الأب والابن، أو إدخال تفاصيل صغيرة طريفة وتطويرها بحيث تصل إلى الهزل أو (farce) في بعض المشاهد. الرحلة العجيبة تقود الاثنين أولا؛ إلى موقع التسامي الروحي الذي يديره عالم يقال إنه عالم متخصص في الطاقة البشرية، وكان الموقع في الماضي قاعدة عسكرية سوفييتية! وعندما يختفي الأب داخل هذا المكان في صباح اليوم التالي، يتوجه بافل إلى قسم الشرطة لكن الشرطي لا يهتم طالما لم تمر 72 ساعة على اختفاء الأب. وعندما يتذمّر بافل يطلب منه الشرطي كتابة شكوى. لكنه سيقع في المحظور عندما يسرق بعض المربّى المنزلي من مكتب الشرطي، لكي يعود به إلى زوجته التي تتوحّم على هذا النوع تحديدا فيقبض عليه ويقضي ليلة في الحبس. بعد إصابة والده بجروح ينقله إلى مستشفى حيث يريد الطبيب احتجاز الأب مقابل دفع مبلغ مالي عن كل يوم (نفس الفكرة المتكرّرة من الفيلم السابق). وفي مطعم على الطريق يحتج أحد الزبائن على رداءة الطعام بينما يتسلل الأب هاربا ثم يسرق عربة يجرها حصان ويطارده المزارعون يريدون الفتك به. يدخر الفيلم في نهايته مفاجأة تنتصر للحقيقة مقابل الخرافة، والتطلع إلى المستقبل. “الأب” عمل رقيق شفاف، يمتلئ بالمواقف الذكية المعبرة البسيطة التي تقول الكثير دون تعقيدات. وهو يتميز بإيقاع سريع، وتصوير سينمائي يتمتع بالحيوية، ودقة في اختيار الأماكن الطبيعية الريفية بحيث تصبح خلفية جيدة للقصة نفسها بدلالاتها المتعددة، وبأداء تمثيلي على مستوى رفيع من جانب طاقم محترف متجانس يتقدمه إيفان سافوف في دور الأب، وإيفان بارنيف في دور الابن، كشخصيتين متناقضتين في الفكر والسلوك ورد الفعل في علاقتهما بالحياة والموت.

مشاركة :