هناك في بيته بأعالي العاصمة ينتظر منذ أكثر من عشرين سنة، يجلس على أريكة عتيقة بجنبها طاولة عليها هاتف. نفس الهاتف الذي لم يغيره. يحرص دوما على الجلوس في هذا المكان العزيز على نفسه وهو يستقبل الضيوف والرفاق. علّ في لحظة ما يرن الهاتف رنة قد تكون ثلاث أو أربع رنات أو أكثر أو حتى واحدة لا يهم. المهم أنه يعرف دقتها، حسها، لونها وصداها، والصوت السري الذي يتصل به، صوت يتسرب من علياء الحكم “السي مولود، طلع نحتاجوك”، ولكن الهاتف لم يرن. وهذا منذ أكثر من عشرين سنة ومازال على حاله. عندما يستقبل مولود حمروش الوفود في بيته، أيا كان شكلها أو عرقها أو انتماؤها يقوم بنفسه على خدمتها، يدفع عربة عتيقة ذات 3 طوابق عليها الشاي والقهوة والحلويات الجافة والمكسرات، يقدمها لها بنفسه كإشارة بأنه خدوم و”يتهلا” في الضيوف برغم مركزه القديم في سرايا الحكم وسمعته التي تظهر وتغيب على كل لسان حسب الوضع والواقع. كلمة السر تجيئه طلائع الوفود بين كر وفر، تستجديه وتستعطفه، يمعن النظر فيها جيدا لا يلـمح بينها أي قبعة، يستقبلها هذه المرة عند عتبة الباب، يحكي لها قصص النظام على عجل. يرفض عرض التقدم والترشح للرئاسيات القادمة، ويتمنع عن تلبية رغبات الجمع، فالوقت والزمن والطبيعة ليست كافية ومناسبة. يراوغ مريديه وأتباعه ورواد صفحة زرقاء أنشئت خصيصا لتعداد محاسنه ومواقفه النيرة الصارمة وصوره، وينطق بكلمات خطرة وغامضة ومريبة بالقول إنه يمكن العفو عمن لم يرتكب أخطاء كبيرة وفادحة، مقابل إعادة ما نهبه. و”الذي أخذ كثيرا نعاقبه”. هي جمل قد تكون إشارات وفواتح للذين هم في السجن، العصابة كما أصبحت تعرف اليوم، أصحاب الملك والنفوذ والمال الغزير المتجول في القارات الأربع وفي زوايا الوطن، أو قد يكون قالها وهو يعرف جيدا صداها لدى أولئك المتخفين وراء الستار، فهو لا يخفي أمر أنه ابن النظام الكلمة التي أصبحت ترشح في بياناته التي باتت كهلال رمضان ينتظرها الأتباع والزملاء والمحللون والفقهاء والإعلاميون، يكتبها باللغتين الفرنسية والعربية وتعدل بالمجهر وتصحح لغويا في مطبخ بعض المقربين منه الحالمين مثله بموقع العليين، قد يأتي حين يأتيه الحكم. حمروش نموذج تراجيدي لابن عاش وعايش وتنفس هواء النظام، فهو فيه منذ الستينات إلى غاية التسعينات. منتدب بوزارة الدفاع لدى رئاسة الجمهورية، ومدير مساعد ومسؤول البروتوكول برئاسة الجمهورية، وأمين عام الحكومة، وأمين عام رئاسة الجمهورية ورئيس للحكومة. مناصب دخلها معززا مكرما، وعندما خرج منها خرج وقد خلف الجزائر في دوامة عميقة لم تستفق منها للآن، وعندما نقول دوامة أو أزمة، فالمقصود منها أزمة الجبهة الإسلامية للإنقاذ وعلاقتها بالسلطة آنذاك، حين كان رئيسا للحكومة أين تفاوض سرا أو علنا معها. لا تهم التفاصيل ودقائق ما حدث آنذاك المهم أنه كان يرى نفسه رئيسا للبلاد خلفا للرئيس الراحل الشاذلي بن جديد المطلوب رأسه من طرف وسائل التواصل الاجتماعي، “مسمار جحا” الشعار المدوي في الساحات والمواقع التي احتلها مناضلو تلك المنصات وجحافل المتعاطفين معهم والناقمين على النظام. “الاحتلال” الذي سمح به حمروش وكان يرى فيه الطريق المؤدي والضاغط لإزاحة الشاذلي والجلوس مكانه، كان ذلك هو العهد والوعد والوثيقة الموقعة في غمرة المظاهرات والاعتصامات والاضطراب والضجيج والتهديد المطل برأسه والملوح بسيوفه ورصاصته التي كانت تسطع من أسطح العمارات مثلما صرح به الجنرال الهارب خالد نزار في إحدى خرجاته الإعلامية، فتنة دامية ضربت منعطفات الشوارع وأزقتها الضاجة بالتسابيح والأذكار والصلوات والتهجد. فتنة بلا شك عمقت النشوة والفرح والحبور لدى حمروش وهو يرى الخوف لا يسيطر فقط على الجزائر بل على أركان النظام عسكريين ومدنيين، وكان يرى نفسه الوحيد القادر على محو آثارها وجراحاتها. أحلام الملك كان يحلم بكرسي الرئاسة منذ أن تلقفه الراحل هواري بومدين في إحدى جولاته الميدانية عبر الثكنات. كان ذلك سنة بعد الانقلاب العسكري الفاشل الذي قام به العقيد الطاهر زبيري، صال بومدين على العسكر شارحا ومطمئنا وجاسا النبض. وفي ثكنة “بوغار” العسكرية انتظم الضباط للاستماع إليه، تناول الكلمة العديد منهم وكان من بينهم حمروش الذي لفت انتباه بومدين بفصاحته اللغوية وتمكنه العميق من التحليل والشرح والإحاطة، الأمر الذي مكنه من الترقي والصعود إلى قصر الرئاسة حيث انضم إلى فريق البروتوكول. ويمكن تصور كيف كان إحساسه حين ولج القصر من ثكنة عسكرية معروفة لدى العام والخاص بقسوة مناخها وخشونة التدريبات فيها وصعوبة التأقلم فيها إلى قصور فسيحة وفخمة ومغرية وطرق مفتوحة على كل شيء، النفوذ، القرب من القرار، الأسرار، العلاقات المتشعبة، مغريات فتحت عينيه من جديد على الحياة والأحلام والطموحات والمناصب. أصبح حمروش منذ تلك اللحظة ظل النظام ومظلته، يعرف الكبيرة والصغيرة، يجوب الجزائر والعالم، صوره الأبدية التي بقيت في أذهان المخضرمين والشيوخ والتي كان ينقلها التلفزيون آنذاك بالأبيض والأسود هي عن رجل نحيف بشعر كثيف وخالة توشح خده الأيمن، يحمل مظلة ويقف وراء المرعب والمخيف بومدين يقيه المطر وحر الصيف، بل مازال البعض يتذكر كيف كانوا يتندرون على اسمه فالحاء هي: حامل، والميم هي: مظلة، والراء هي: الرئيس، والواو هي: وراء، والشين هي: الشمس. كان متكتما كأي رجل مقرب من هذه الدائرة الضيقة. صنع لنفسه مكانة مقنعة ضمن فريق البروتوكول المرافق للرئيس في حله وترحاله، وأصبح مثله يدخن سيجارا فاخرا كوبيا، كوّن نفسه بعمق في مجال هو المحبب لدى القادة والزعماء العرب، العسكر والقوة والانقلابات، أكمل دراسته في هذا التخصص ونال درجة الماجستير حول موضوع؛ الظاهرة العسكرية في أفريقيا من خلال الانقلابات. هل كان يحدس أن المصائر ستقوده يوما إلى التخطيط ورسم العديد من المؤامرات ضمن دهاليز الحكم والقرار؟ فهو من رسم وأعد خطة محكمة بمعية أربعة أشخاص للدفع برئيس الحكومة المغتال رئيس الأمن العسكري سابقا قاصدي مرباح والضغط عليه لإخراجه من سدة الحكم من خلال تقارير مغلوطة كان ينقلها إلى الرئيس بن جديد الذي خلف بومدين في مفصل تاريخي معقد ومشتبك انهار فيه كل شيء، بل تم تجنيد الإعلام الرسمي لتشويه الحقائق وبث الشائعات. وكانت النتيجة إقالة مرباح وتربعه على عرش رئاسة الحكومة سماها “حكومة الإصلاحات”، هذه الأخيرة عرفت لأول مرة في تاريخ الجزائر دخول وزير من أصول يهودية، وإلغاء وزارة المجاهدين، وفتح القطاع الإعلامي أمام الصحافيين لإنشاء جرائد خاصة حيث تكفلت حكومته بدفع تكاليف الطباعة وغيرها لمدة 3 سنوات، وكان من نتيجتها بروز صحف مازالت للآن تدين له بالولاء وترافع من أجل أفكاره وآرائه، وهيكل كبريات الشركات الوطنية من خلال بث روح المنافسة والانفتاح على الخارج والسوق العالمية، والتخطيط لإعادة الجدولة وكان أهم ما حاول إصلاحه إبعاد وجوه عسكرية كانت موجودة في العديد من المؤسسات الاقتصادية الكبرى بحكم صلاحيات ممنوحة لها كمراقبين وملاحظين غير أن هذا الأمر رفض من طرف أقوى رجل آنذاك في منظومة العسكر محمد بتشين قائد جهاز المخابرات واصطدم به أكثر من مرة. من المثالب التي ألصقت بحمروش حذف مقطع من النشيد الوطني الذي يقول “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب”، عندما كان أمينا عاما للرئاسة في زمن بن جديد. تكاثرت الروايات عن أسباب ذلك وخلفياتها. البعض يقول إنها تعود إلى زمن بومدين، والبعض الآخر يعيد الأمر إلى ضغوط مارستها فرنسا على الجزائر في زمن بن جديد. القضية ليست في من كان وراء الأمر والأهداف منها، بل القضية في تزكية حمروش للفعل وسكوته الغامض آنذاك، وهو اليوم لا يذكر الحادثة ويتمنى أن تطوى في ظلال النسيان هي والعديد من القضايا التي دارت أثناء توليه المناصب حتى وهو خارجها. فالرجل حذر، لا يحب أن يثير الشغب والفوضى ويكشف المستور والمتخفي وراء الظلال. لا يطرح الأسئلة التي تزعج وتوقظ الشياطين، وإذا طرحها فيغلفها بالكثير من الحذلقات السياسية ويهرب بها إلى أغوار بعيدة كي لا تفضح ولا تظهر، يتحسس أين تميل الكفة في موازين القوى داخل النظام، وهو يعرف دوما أنها تميل إلى العسكر لذا لم تخرج جل مساهماته عن هذا الإطار. المعاني الخلابة والمنمقة التي ترافق تحاليله للوضع سواء القديمة على قلتها أو الحديثة على كثرتها اليوم، تثبت وفاءه للعسكر وهو وفاء قديم، فهو قبل كل شيء عسكري من الطراز العتيق خريج المدرسة العسكرية العراقية المعروفة عبر التاريخ أن عمودها الفقري ومرتكزاتها الأساسية وعقيدتها تتم عبر الانقلابات والقمع والسيطرة بقوة السلاح، والوصول إلى سدة الحكم يتطلب مثل هذه الأمور، ومواقفه واضحة وعلنية من العديد من القضايا التي أخذت منعرجات خطيرة في حياة المجتمع الجزائري يقولها ويؤكدها رفاقه ومستشاروه. شارك في سباق الرئاسيات في 1999 مع ضمانات كافية ومريحة من طرف العسكر، ولكن في خضم الحملة أحس أنه مجرد أرنب سباق وواجهة تلميعية للمنافسة بدا فيها كل شيء محسوما لصالح عبدالعزيز بوتفليقة فانسحب وعاد إلى بيته منكسرا ومنتظرا. تفاوض سرا مع حاشية الرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة، كما تقول الأنباء والمراجع الإعلامية، وكانت رسائل الحاشية تتحدث عن دعمه للرئيس لعهدة رابعة في مقابل تولي حمروش منصب نائب له، ولكن بعد مهلة من التفكير والاستشارات المكثفة رفض العرض وانكفأ أيضا في بيته منتظرا. طبعا منتظرا دوره في سلسلة طويلة من الصراعات والصدمات الصامتة في سرايا النظام، صدامات تخرج مرات للشمس فلا يلعب معها بدهاء ومكر بل بوضوح وسلاسة كما يسر بل يريد الانتظام في النظام ويصحح أخطاءه ويقوّم إعوجاجه والباقي تفاصيل يمكن تجاوزها مع مر الوقت. لجأ حمروش ذو الـ76 عاما طوال هذه السنوات إلى النضال بصمت وترقب ويهمس أصدقاؤه أنها بحكمة وتبصر لتضخيم الشخص، فمع توليه العديد من المناصب الحساسة في الدولة إلى غاية إقالته سنة 1991 بقي مرتبطا بالنظام لا يحيد عنه، يعطي مواقف سلسلة مشفرة إلى أصحاب القرار النهائي. لا ينزعج من القضايا المصيرية التي تعصف بالمجتمع، لا ينزل إلى الشارع المخضب اليوم بالحراك حيث لم يُـر بين الجموع كأي سياسي محنك أو كرجل بسيط يعيش همّا مثقلا. منظومة مفلسة ينظر إلى الجزائر من مسطرة السبعينات والثمانينات، ومن علياء التنظير والفلسفة، وفي مواجهة جيل جديد رافض ومتذمر وساخط بالكاد لا يعرف شكله يحاول أن يستميله إلى عقله المتخم بالمفاهيم المجردة عن العصب وصراع المصالح والتخندق وإعادة التوازن إلى النظام وغيرها من العبارات التي تجلجل في بياناته ويُحتفى بها في قاعات التحرير وفي مراكز التحليل. هل المجتمع الجزائري الراهن يحتاج إلى رجل مثل حمروش؟ وعندما نقول المجتمع الراهن فيعني مجتمعا غير موجود في مواقع أخرى لا في الثكنة العسكرية ولا في مكاتب الأحزاب ولا في عقول النخب. مجتمع يرى اليوم مآلات مصيره وقد عبث به النظام منذ الاستقلال، وأفرغته شخصيات تقلدت الحكم مثل، حمروش، من قيمه وتطلعاته البسيطة ورمت به في أغوار المجهول. إن حمروش، كما يراه العديدون، مكانه بيت عتيق يغلق بقوة الحديد، وهو مثال صارخ على إفلاس منظومة كاملة حكمت الجزائر بقبضة القوة والسيطرة والمحسوبية والجهوية المقيتة والمنتفعة، انحدرت بالجزائر إلى الدرك الأسفل من التفاهة والرداءة والهوان والسلب، ولا يمكن له أن يقود السفينة التي تمخر عباب واقع جديد مفتوح على عوالم أخرى لا يتقبلها ذهنه التقليدي المرتبط بالإشارات والذبذبات التي ينتظرها من حيث يعرف أنها لن تأتيه.
مشاركة :