يعتبر المفكرون أن الطفرة التقنية الهائلة وغير المسبوقة تمثل نعمة؛ لأنها سهلت الكثير من مناحي حياة البشر وخلقت لهم فرصا وآفاقا جديدة لم يكن احد يتصورها إلا في أفلام الخيال العلمي، غير أن هذه التحولات التكنولوجية الجديدة قد انطوت على جوانب سلبية وتمثل اليوم تحديات كبيرة في حياة الانسان. يمكن القول أيضا بأن منظومة حقوق الإنسانية الكلاسيكية، والمنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في سنة 1948 باتت اليوم تواجه تحديات كبيرة، لكن الأزمان قد تغيرت كما أن تطور الحياة قد خلق رهانات ومتطلبات جديدة في حياة البشر. يمكن القول بصفة عامة ان حقوق الانسان عبارة عن جملة من المطالب الأخلاقية التي تخص كل إنسان على وجه الأرض من دون أي تفرقة أو تمييز. من الواضح أن هذه الحقوق الأساسية قد باتت اليوم – في القرن الحادي عشر على وجه التحديد مهددة بسبب التداعيات العميقة الناجمة عن التطور التقني المذهل. كيف يمكن لهذه الطفرة التكنولوجية المذهلة أن تهدد بتقويض حقوق الإنسان؟ إن هذه الأساليب والتقنيات الفائقة التطور التي يمتاز بها عالمنا المعاصر تشجع على زيادة إنتاج البضائع والخدمات في المجتمع وتطور أساليب الاعتماد على مكننة العمل عبر زيادة الاعتماد على الانسان الآلي في الإنتاج، وهو ما أصبح يسمى في الوقت الحالي الذكاء الاصطناعي. من الواضح أن هذه الطفرات التكنولوجية تؤدي إلى تقويض المفهوم التقليدي في العمل وتضرب حق الانسان في العمل وهو ما سيؤدي في المستقبل إلى تراجع الطلب على العمل البشري. بعبارة أخرى مع ازدياد الاعتماد على هذه التقنية المتطورة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي والانسان الآلي يزداد عدد البشر الذين يحرمون من العمل والقدرة على تأمين دخل مادي للإيفاء بمتطلبات حياتهم وهو ما سيفضي في نهاية المطاف إلى تهميشهم في صلب المجتمع وهي الظاهرة التي بدأنا نشهد إرهاصتها منذ عدة أعوام مع مطلع القرن الحادي والعشرين. صحيح أن التقنية الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعي قد انطوت على جوانب إيجابية في لصالح البشر في القرن الحادي والعشرين غير انها بالمقابل أثارت مخاوف عديدة، وبات تأثيرها يهدد عدة حقوق إنسانية أصيلة مثل حق العمل الذي بدأت التقنيات الحديثة تسلبه منه. أدت هذه التحولات العميقة التي تشهدها المجتمعات البشرية المعاصرة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين -على وجه الخصوص- إلى حرمان أعداد متزايدة من أبناء البشر من حقهم في العمل والحصول على الدخل، وهو ما يسبب بدوره تفاقم معضلة البطالة وتراجع الفرص في الحصول على التعليم والصحة، الأمر الذي يؤدي إلى التهميش حتى الإقصاء الاجتماعي بسبب عدم تكافؤ فرص الحصول على سبيل المثال على السكن والصحة والتعليم وهي من أساسيات حياة الفرد في صلب المجتمعات. لا شك أيضا أن الأساليب التكنولوجية الجديدة تسهم في تخفيض كلفة الإنتاج والتوزيع لكن هذه النواحي الإيجابية تتم على حساب بني البشر لأننا نشهد تراجعا ملموسا في الاعتماد على العمل البشري كعامل من عوامل خلق الثروة في الدول، والمجتمعات الإنسانية فيما يزداد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، الذي يتجلى في الإنسان الآلي من أجل خلق الثروة وتحسين دورة الإنتاج. كتب أحدهم يقول بشيء من التهكم: «قد يصعب الحديث عن حقوق الانسان في القرن الحادي والعشرين. كلما نقرأ الصحف، فإننا نشعر أن منسوب حقوق الانسان قد تراجع وقد لا يبقى منها شيء في ظل حلول القرن الحادي والعشرين». بطبيعة الحال ستظل منظومة حقوق الانسان المتوارثة منذ عدة عقود – أي ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية قائمة، غير أنها ستظل تواجه تحديدات متنامية أفرزتها التحولات التي نشهدها في القرن الحادي والعشرين، والتي خلقت مطالبات جديدة في حياة الانسان. في الماضي كنا نعتمد على الأرقام الإحصائية كي نبين أنه كلما ازداد الإنتاج وكبرت الثروة وتنوعت مصادرها ارتفعت معدلات التشغيل وازداد الاقبال على العمل البشري على أساس أن البطالة من الأمور التي تعكس وجود حالة من الكساد الاقتصادي. بدأت هذه المعادلة الكلاسيكية على وجه الخصوص منذ بداية فترة التسعينيات من القرن العشرين لتبلغ ذروتها في القرن الحادي والعشرين لأن عوامل جديدة باتت تتداخل في زيادة الإنتاج وخلق الثروة، وخاصة تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تقلل الحاجة إلى الاعتماد على العمل البشري، وهو ما يضرب حقا أصيلا من حقوق الانسان – أعني الحق في العمل. على عكس اتجاهات الإنتاج والتشغيل في الماضي فقد أصبحت الأرقام الإحصائية تظهر تفاقما في أعداد العاطلين رغم الارتفاع الملحوظ في الإنتاج. فأساليب العمل والإنتاج والتوزيع وخلق الثروة التي كانت سائدة خلال العقود الماضية تغيرت كثيرا في القرن الحادي والعشرين كما أن متطلبات انسان القرن الحادي والعشرين والتحديات التي يواجهها اليوم تختلف كثيرا عما كان عليه الأم في الماضي. ربما يتعين علينا اليوم ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين أن نعيد بناء مفاهيم الفرد والمجتمع وتحديد مكانة الفرد في المجتمع المعاصر وتوسيع نطاق الحقوق حتى تلائم المتطلبات والتحديات المتنامية. على سبيل المثال في القرن التاسع عشر أفرزت الثورة الصناعية التي شهدتها تلك الحقبة عدة نصوص تتطرق الى الحديث عن حقوق العمال مع تنامي المصانع ظهور تحديات ومتطلبات جديدة لم تكن قائمة في العقود التي سبقت الثورة الصناعية. شهد القرن العشرين نشوب حربين عالميتين مدمرتين إضافة إلى عديد المآسي والكوارث الإنسانية التي أودت بحياة ملاين البشر. شهد القرن العشرين أيضا ميلاد كونية حقوق الانسان مع صدور الإعلان العالمي لحقوق الانسان سنة 1948. لنا أن نتساءل: حقوق الانسان إلى أين في القرن الحادي والعشرين؟
مشاركة :