د. عصام نعمان الجماهير تملأ الشوارع والساحات في لبنان من شماله إلى جنوبه. إنها تظاهرات غير مسبوقة، عابرة للمناطق والطوائف، لا قائد لها لدرجة يمكن القول: إن «الشعب هو القائد» فيها.إلى ذلك، لا وجهة سياسية أو اجتماعية محددة لها. كل الشعارات السياسية والاجتماعية والمشاعر الشخصية تجد متنفساً لها فيها. فهي تظاهرات عفوية في أيامها الأولى، ويبدو أن عمرها سيكون مديداً؟يمكن الجزم بأن الأكثرية الساحقة من المتظاهرين عفويون. لكن ذلك لا ينفي وجود أقلية غير عفوية وموجهة. التوجيه يحصل بوسائل شتى: القنوات التلفزيونية، وسائل التواصل الاجتماعي، الأخبار الكاذبة. غير أن أكثر الوسائل فاعلية هي تلك الجيوش الإلكترونية التي «تملكها» وتوجهها حكومات وتنظيمات وشخصيات متعددة الألوان والأغراض.الميزة الأبرز لهذه التظاهرات أنها أشبه بمهرجانات الغضب الفرح. فالتظاهرة تكون، غالباً، وسيلة للتعبير عن السخط والغضب الشديدين. أما في لبنان، فتتجلى في تظاهراته فرحة الغضب. صحيح أن المتظاهرين غاضبون، لكن غضبهم يتحلّى بفرح غامر. غضبهم على المغضوب عليهم لا ينمّ عن ضغينة، بل يعبر عن معارضة مبتهجة يجري خلالها حمل العروسين على الأكتاف، وكأنهما مرشحان في انتخابات نيابية.هذا الجانب البهيج من التظاهرات لا يخفي جوانبها الجدّية. فهي تظاهرات سياسية بالدرجة الأولى تضج بشعارات ومطالب سياسية. أقوى الشعارات وأكثرها انتشاراً هي الشعارات الاجتماعية المتعلّقة بالضائقة المعيشية والبطالة والمرض والطبابة والدواء. هذه المطالب لا تخلو في أحيان كثيرة من شكاوى شخصية من زوج ظالم، أو مطلقة محرومة من رؤية أولادها القصّر، أو من شاب عاطل من العمل، أو من طالب أو طالبة مُنعا من الانتساب إلى جامعة. في الآونة الأخيرة، ازداد نشاط الجيوش الإلكترونية. نشاطها يكاد يقتصر على النواحي والأغراض السياسية. بعضها يكشف فضائح مالية لمسؤولين كبار وصغار. وبعضها الآخر يكشف أغراضاً ومطامع لقادة سياسيين محليين أو أجانب.. ليس من قبيل التبسيط القول: إن تيارين رئيسيين يتقاسمان التظاهرات التي قدرت وكالة رويترز عديدها بأنه يناهز المليون ونصف المليون. التيار الأول العريض يتألف من أحزاب ونقابات وتشكيلات المجتمع المدني المنادين بشعارات سياسية راديكالية شتى، أبرزها ثلاثة: «الشعب يريد إسقاط النظام»، «الشعب يريد إسقاط الحكومة»، «استعيدوا الأموال العامة المنهوبة، وحاكموا سارقيها». التيار الثاني الأقل عدداً يرفض إسقاط العهد والحكومة، ويدعو إلى التركيز على ضرورة تفادي انهيار النظام المالي والاقتصادي بتنفيذ إصلاحات وإجراءات مالية واقتصادية.التيار الأول ، يقوم منطقه على حجج سياسية مستمدة من الواقع، أبرزها أن النظام السياسي ترهل وتداعى بفعل أداء أهل السلطة الفاسدين، وهو ما راكم أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية ضاغطة وضاعف الدين العام، وأوصل البلد إلى حافة الانهيار، وأنه لا يعقل أن يقوم حكام فاسدون بمحاربة الفساد ومقاضاة الفاسدين، وأن الخروج من الأزمة المزمنة يتطلب المبادرة إلى إقصاء هذه الطبقة الطائفية الفاسدة سلماً بقانون للانتخاب يكون لبنان بموجبه دائرة وطنية واحدة على أساس النسبية، وتنفيذ المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلسين تشريعيين: الأول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، والآخر مجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف يختصّ بالقضايا المصيرية.التيار الثاني، يرى أن الظروف الداخلية والإقليمية لا تسمح بإقصاء رئيسي الجمهورية والحكومة مخافة الوقوع في فراغ قد يستغرق ملؤه سنوات، وهو ما قد يؤدي إلى انهيار مالي واقتصادي وفوضى سياسية عارمة، وأن النهج الأفضل هو الإسراع في معالجة الأزمة المالية والاقتصادية لتفادي الانهيار، ووضع الأسس وإقامة الهيئات والمؤسسات اللازمة لاستعادة الأموال العامة المنهوبة، ومحاسبة المسؤولين عن النهب والسرقة.يأمل اللبنانيون أن يتّعظ أهل السلطة من دروس التاريخ المستقاة من تجارب دول أخرى في الشرق والغرب، وأن يكفّوا عن الإصرار على إعادة إنتاج أنفسهم، وأن ينفتحوا على العصر وأجيال الشباب الحالمين بالتغيير الديمقراطي والنهضة. كما يأمل اللبنانيون أن يتعقل الثائرون والمتظاهرون طلباً للإصلاح والعدالة بأن يتوحدوا ويختاروا لأنفسهم قيادة وبرنامجاً تغييرياً متكاملاً ونهجاً عملياً يُوصل بالصبر والمثابرة إلى تحقيق أهدافهم العليا في الحرية والدولة المدنية الديمقراطية وحكم القانون والعدالة والتنمية... والمهم ألا تتحول فرحة الغضب إلى غضب بلا فرح ينعكس فوضى وخراباً على البلاد.
مشاركة :