بدأت الرهانات التي تتحرك وفقها حركة النهضة الإسلامية برئاسة راشد الغنوشي، تتبدل معطياتها بوتيرة مُتسارعة تبعا لتطورات الواقع وموازين القوى بتداعياتها التي تطرحها عبر حزمة من الرسائل التي تباينت من حيث الشكل، وتضاربت على مستوى المضمون الذي عكس تخبطا واضحا نتيجة تبعثر أوراق ضغطها التي تناثرت في اتجاهات مُختلفة، ما أربك حساباتها التكتيكية الرامية لتشكيل الحكومة التونسية الجديدة. ويتجلى تخبط حركة النهضة الفائزة بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية بتونس من خلال التصريحات المُتناقضة لعدد من قادتها في علاقة بالمشاورات والاتصالات التي تُجريها لتشكيل الحكومة التونسية الجديدة في آجالها الدستورية، حيث تراجعت عن تهديداتها السابقة بالذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في صورة فشلها في الوصول إلى تفاهمات تُمكنها من تشكيل الحكومة برئاسة أحد قادتها. ويؤكد هذا التراجع الذي جاء على لسان القيادي بحركة النهضة محمد بن سالم، الذي تولى حقيبة وزارة الفلاحة خلال فترة حكم الترويكا، أن مساحة المناورة لدى هذه الحركة المحسوبة على الإخوان المسلمين، قد تقلصت إلى درجة جعلتها تتخبط في مواجهة شبح الانسداد السياسي الذي بات يُحيط بتحركاتها ومشاوراتها الأولية لتشكيل الحكومة المُرتقبة. ولم يتردد محمد بن سالم، في التأكيد على أن الأحزاب السياسية “لم تتعامل بمرونة وإيجابية” مع حركة النهضة المعنية بتشكيل الحكومة المقبلة، مُحذرا في تصريحات الجمعة، من سيناريو الذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في صورة الفشل في الوصول إلى توافق حزبي حول الحكومة المُرتقبة. واعتبر أن سيناريو الذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، “قد يقضي على الأحزاب بما فيها حركة النهضة التي قد يتقلص عدد المقاعد التي حصلت عليها”، إلى جانب “اندثار الأحزاب الأخرى التي جاءت في المراتب الموالية”، مُقابل صعود “أحزاب أو ائتلافات تُنسب نفسها إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد”. ولم يكتف بن سالم بذلك، بل ذهب إلى حد اعتبار أن حركة النهضة “غالت حين شددت على ضرورة ترشيح أحد قياداتها لرئاسة الحكومة القادمة حتى وإن كان رئيس الحركة راشد الغنوشي”، على حد قوله. وكان مجلس شورى حركة النهضة قد قرر أن رئيس الحكومة التونسية القادمة سيكون من داخل الحركة، حيث أكد عبدالكريم الهاروني أن “حركة النهضة ستشكل الحكومة المقبلة، وستعيّن شخصية منها لرئاستها”. وشدد الهاروني قائلا إن “هذا الأمر لا يخضع للتفاوض، هذا حق النهضة في أن تقود الحكومة على أساس برنامج”، ولكنه لم يذكر اسم الذي ستوكل إليه هذه المهمة، حيث اكتفى بالإشارة إلى أنه “بالنسبة للقانون الأساسي للحركة فإن رئيس الحركة هو المرشح للمناصب العليا، تبقى هذه الفرضيات مفتوحة في رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة”. ولوح بن سالم في بسيناريو الذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها، عندما قال “في صورة الفشل في تشكيل الحكومة، فإن الحركة ستعود إلى الأصل وتُعيد الأمانة لصاحبها، حركة النهضة لا تخشى ذلك، وهي ليست هاربة من الحُكم أو من المسؤولية”، على حد تعبيره. وقبل ذلك، أكدت القيادية في حركة النهضة، يمينة الزغلامي، أن حركتها “مُتمسكة برئاسة الحكومة، وأنه إذا لم يتم التوافق حول الحكومة، سيتم الذهاب الى انتخابات أخرى”، فيما كتب ناجي الجمل، عضو مجلس شورى حركة النهضة في تدوينة له قال فيها، إن “إعادة الانتخابات أقل تكلفة من خمس سنوات عجاف”. ورأى مراقبون في هذا التباين الواضح في المواقف أنه ُيؤشر على أن العناصر التكتيكية التي على أساسها يُحاول مسؤولو النهضة إدارة المفاوضات مع بقية الأحزاب لتشكيل الحكومة، أصبحت عرضة لتبدّلات مُتحركة وغير ثابتة، بعد إدراكهم بأن حكومة النهضة المُرتقبة تحتاج إلى من تستند عليه، وهم عاجزون عن توفير هذا السند بعد أن انفضت الأحزاب من حولهم. ويُنظر إلى تهديدات حركة النهضة بالعودة إلى صناديق الاقتراع في انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في عام 2020، على أنها محاولة تسعى من خلالها إلى خلط الأوراق، وفتح سجالات جديدة على أمل تطويق المأزق المُتفاقم الذي يُحيط بها نتيجة غلق أي أفق للحديث عن شراكات بعد أن أعلن حزب التيار الديمقراطي، وحركة الشعب رفضهما المشاركة في حكومة برئاسة النهضة. وينطوي هذا الموقف الذي وجدت حركة النهضة نفسها فيه على مفاجآت قادمة، لأنه يحمل بين ثناياه مؤشرات تصدع داخلي مُتسارع، يأتي في سياق سجالات حافلة بمفردات الانقسام المُرشح للتفاقم على وقع حسابات المؤتمر العام القادم لهذه الحركة التي لا تُخفي خشيتها من نتائجه.
مشاركة :