"الحياة الوردية" يتربع على عرش أفلام السيرة الذاتية ويعيد إديت بياف إلى الحياة

  • 10/26/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قلّما أفلام السيرة الذاتية التي تتناول حياة شخصية شهيرة تنجو من موجات الانتقاد والغضب من قبل جمهور محبي تلك الشخصية، وذلك لأسباب تخص ضيق هامش الخيال وضرورة الاحتكام للدقة والمصداقية التاريخية، وكذلك الوقوع في فخ المقارنة بين الممثل والشخصية المحورية التي يتناولها العمل السينمائي، إلا أن فيلم “الحياة الوردية” الذي يروي سيرة المغنية الأشهر في تاريخ فرنسا والعالم إديت بياف، نال نجاحات هائلة وحظي بتكريمات وجوائز عديدة، حتى أنه لا يزال الوثيقة الأقرب إلى حياة أيقونة الغناء، رغم كثرة الأعمال التي تناولت سيرتها. ويعود سبب شهرة الفيلم واكتساحه لصالات العرض بأرقام قياسية، إلى تلك الروح الشعرية العالية في الأداء والتصوير والخلفيات الموسيقية المستوحاة من عالم المغنية التي تعدّ حياتها، بحق، نصا روائيا شديد الإتقان، وجاهزا للتصوير دون وصفة، بل لا يمكن أن يصنعه خيال عتاة كتّاب السينما ومخرجيها. يحمل الفيلم في نسخته الفرنسية اسم (لا موم)، وفي النسخة الدولية “الحياة الوردية”، وهو عنوان نفس الأغنية التي كتبتها وغنتها إديت بياف. يعتبره نقاد كثيرون من أجمل ما أنجز في أفلام السيرة الذاتية على الإطلاق، وذلك لتناوله حياة نجمة ملأت الدنيا وشغلت الناس، وارتبط اسمها بمجد غنائي نادر، من جهة، ولشدة إتقانه وتمكنه من أدواته الفنية من جهة أخرى، حيث نقل إلى جمهور الشاشة شخصية إديت بياف كما لو كان يعيش داخلها ويتنفس أنفاسها. نقاد السينما وعشاقها يجمعون على أن فيلم “الحياة الوردية” سيبقى خالدا من بين أفلام السيرة الذاتية التي مسحت عبر حياة إديت بياف (1915ـ1963) مرحلة صاخبة من تاريخ فرنسا والعالم. والفيلم من إنتاج عام 2007، أخرجه أوليفيه داهان، كان مرشحا لجوائز عدة؛ ونال الكثير منها (مثل جائزة سيزر)، بما في ذلك جائزة أفضل ممثلة، ماريون كوتيار، وقد حصلت على جائزة الأوسكار لأدائها المتميز، وهي المرة الأولى التي تمنح فيها جائزة أوسكار لدور باللغة الفرنسية، وأول ممثلة تفوز عن فيلم كوميدي أو موسيقي بغولدن غلوب، عن دور اللغات الأجنبية، وأصبح “الحياة الوردية” أول فيلم سينمائي فرنسي يفوز بجائزتي الأوسكار، وأخرى للماكياج. في هذا الفيلم الذي يسرد حياة أسطورة الغناء الفرنسية إديت بياف، شهد العالم ولادة حسناء هوليوود ماريون كوتيارد في دور استثنائي لشخصية استثنائية، وأذهلت من خلاله جمهورا تابعها بمتعة واندهاش. تقول الكاتبة نورا ناجي عن أدائها في الفيلم “كنت أنوي حقا التحدث عن الفيلم الذي يروي سيرة حياة الأسطورة إديت بياف، والحديث عن الأداء المذهل للممثلة الفرنسية ماريون كوتيار، التي بدت وكأنها تلاشت في هالة بياف، حتى أنني نسيت لوهلة أن هذه ممثلة أخرى وليست إديت بياف”. وفي ذات السياق يقول الناقد السينمائي علي المسعود “ليس من المبالغة عندما أقول إن تجسيد كوتيارد لشخصية إديت بياف، يمكن إدراجه كأفضل أداء في اقتباس السيرة الحياتية لفنان من الجانب النسائي”. ويضيف المسعود “بالطبع هذا الأداء المدهش والعبقري من كوتيار، والذي أهلها للحصول على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عام 2008 باستحقاق وإجماع، وكأننا نشاهد فيلما تسجيليا عن إديت بياف ورحلتها مع البؤس والألم”. حياة تشبه السينما مثل كل معجزة، تولد إديت بياف، المكناة بـ“العصفورة الصغيرة” من رحم واقع رتيب وثقيل، تتلمس فيه حياة قاسية، قاتمة إلى حد الفجيعة في أحد شوارع باريس الفقيرة. الغرابة والتفرد يسكنان هذه الشخصية، في النشأة والسيرة، وحتى الاسم، إذ يُعتقد أنها سميت تيمنا بالممرضة البريطانية التي عملت في الحرب العالمية الأولى، إديت كافيل، التي أُعدمت بسبب مساعدتها لجنود بلجيكيين على الهرب من معسكر اعتقال ألماني. وكانت والدتها آنيتا جيوفانا ميلارد مغنية في ناد ليلي، تنحدر من أصول مغاربية، وكانت تغني تحت اسم لينا مارسا، أما والدها، ألفونس كاسيون، فقد كان لاعبا بهلوانيا يقدم عروضه في الشوارع. كل عناصر الأسطورة متوفرة في سيرة إديت بياف، حتى تجعل من هذه المرأة النحيلة القصيرة، دائمة الاتشاح بالسواد، وذات الحاجبين المقوسين والنظرة الغائرة، خرافة تمشي على قدمين، وتثير الإدهاش أينما حلت وكيفما غنت. ألم تلقبها الصحافة الفرنسية بـ“المرأة التي تقدر أن تغني دليل الهاتف”؟ وكل أسباب الانقراض والاندثار، أيضا، كانت “متوفرة” في حياة تلك الطفلة البائسة التي عاشت التشرد وقسوة العيش بين جدتين. الأولى، لجهة أمها ذات الأصول الجزائرية، والتي عاملتها بقسوة تسببت في إصابتها بالمرض وفقدانها البصر لبضع سنوات في طفولتها، والثانية من أبيها ذات الجذور الإيطالية، والتي كانت تمتلك ماخورا في منطقة النورماندي، حيث وقفت إديت عند تلك العوالم التي وشمت ذاكرتها في علاقة المرأة بالرجل. أخذها أبوها معه إلى السيرك الذي يعمل فيه كبهلوان متجول إلا أنه طرد منه بسبب سكره وعربدته. وظل الأب يطوف مع ابنته في شوارع باريس محاولا كسب عيشهما من حركاته البهلوانية التي لم تكن تلفت انتباه الناس، حتى جاء يوم وهو يؤدي حركاته طالبه الناس بأن يجعل ابنته تقدم شيئا فأجبرها على التصرف ولم تكن تجيد سوى الغناء الذي كسبته من جريها وراء أمها وهي في التاسعة، ومن النساء في الماخور. غنت الصبية الشاحبة الجريئة فأذهلت الناس، ومن يومها أصبح الغناء حرفتها التي تؤمن لها الطعام وشراء الشراب لوالدها المدمن. الفجائع كانت تتربص بصاحبة الصوت الذي يحتفي بالحياة رغم كل الأوجاع، فمن موت ابنتها وهي بعمر الثانية التي تركتها برعاية أبيها، إلى زواجها وطلاقها المتكرر عدة مرات ونجاتها من ثلاثة حوادث مميتة، إلى موت الشخص الوحيد الذي أحبته وتعلقت به في حادثة تحطم طائرة، إلى إدمانها وإصابتها بالسرطان وموتها المبكر (47 عاما) على الرغم من قولها المتكرر “لا أحب أن أموت وأنا سيدة مسنّة”. أوليفيه داهان بنى صورة لبياف حميمة ومتوازنة وغاية في الإنسانية، فلقد كان نصه مليئا بلحظات قوة، وبمواجهات لحياة دراماتيكية متغيرة، وبانكسارات وبهروب وبأمل.. وبكثير من الحب ينضح الفيلم بتلك الحيوية التي اقترنت بشخصية بياف، رغم أحزانها، فشاهدناها كيف كانت تجوب شوارع باريس تغني في صخب ومرح وانسجام، تستوقف المارة شغفا وإعجابا وهي القائلة “لم أعرف في حياتي إلا التمرد.. ولا شيء سوى التمرد”. محطات كثيرة ومفصلية في سيرة إديت بياف، توقف عندها فيلم “الحياة الوردية” وربط بينها في سردية سينمائية آسرة، يمتزج فيها الروائي بالتوثيقي في انسجام تام. ولجت أسطورة فرنسا الغنائية عالم مانهاتن وتمكنت من انتزاع إعجاب الجمهور الأميركي إلى حد الشغف. وهناك التقت مارلين ديترش، التي ظلت وفية لها وبقربها حتى آخر رمق في حياتها وأيضا التقت مارسيل سيردون، الذي يبقى بالنسبة لها حب العمر. ويذكر مؤرخو الفن وكتاب السيرة قصة حبها لهذا الملاكم الفرنسي كواحدة من أهم قصص العشق وأكثرها سحرا وتراجيدية في القرن الماضي، لكن وفاة العاشق في حادث طائرة عندما كان يريد اللحاق بإديت في نيويورك دمرت قلبها. ورغم ذلك واجهت الجمهور من الغد وغنت رائعتها “نشيد الحب” التي أهدتها لروحه. واصلت مسيرتها الفنية التي تدعمت بلقاء شارل أزنافور، الذي غنت معه “أكثر زرقة من زرقة عينيك” وبات أحد المقربين منها ومن أقرب الذين تثق بهم. وواصلت نجاحاتها الساحقة. وعندما غنت بياف عام 1955 على مسرح الأولمبيا في باريس كانت في أوج المجد رغم الخيبة. وانطلقت من جديد في اتجاه أميركا حلمها القديم ولتثأر من بدايتها المتعثرة. وكان لها ما أرادت خاصة بعد أن حاولت أن تشفى من الإدمان. لكن قصة حبها لجورج موستاكي جعلتها أكثر هشاشة هذه المرة أيضا، وظهرت عندما اعتلت مسرح الأولمبيا عام 1961 لتغني رائعتها ” لا أندم على شيء” التي كانت من تأليف صديقها الشاعر المعروف شارل دومون، وتقول كلماتها: لا .. لستُ نادمة على شيء لا الخير الذي قدموه لي ولا الإساءات.. فكلها.. صارت لديّ سواء لا.. لا شيء قَطّ لا.. لست آسفة على شيء قد دُفِعَ الثمن، ومضى، وصار طيّ النسيان وأنا.. سعيدة بماضيّ ورغم كل ذلك أحبت بياف للمرة الأخيرة في حياتها وقبيل رحيلها فنانا شابا هو تيو سارابو وتزوجته لترحل عن الدنيا خريف 1963، تاركة خلفها إرثا من العذاب والدموع يضاهي مدونتها الغنية. حين ماتت إديت بياف، اعتصر الألم صدر الكاتب والمسرحي صديقها جان كوكتو، وقال “لم أعد أستطيع التنفس”.. وقيل إنه مات بعدها بسويعات قليلة. الماكياج نصف الإخراج المكتبة الوطنية الفرنسية تكرم ايديت بياف بمعرض صور عن مسيرتها الفنية المكتبة الوطنية الفرنسية تكرم ايديت بياف بمعرض صور عن مسيرتها الفنية الماكياج في فيلم “الحياة الوردية” كان واحدا من أهم أسباب نجاح العمل، ونال الجائزة المخصصة لهذا الفن في الأوسكار بامتياز، إلى جانب الإشادة الواسعة التي وصلت حد الانبهار من طرف الجمهور والنقاد والمتخصصين. في معرض حديثه عن الفيلم يقول الناقد السينمائي محمد القاسمي، مبديا إعجابه بهذه الدقة والإتقان “لم تكن هناك أي لحظة شك، فشعرها هو نفسه، ومقلة العين، وشكل الشعر في المشاهد الأخيرة كان مطابقا جدا لإديت الحقيقية”، ويضيف القاسمي “وتستطيعون رؤية مشاهد الفيديو لحفلاتها الغنائية، لدرجة أننا ننسى أن ما نراه ما هو إلا ماريون كوتييار، التي لم أشاهد شكلها الحقيقي من قبل، ولكن بعد أن رأيت صورها لم أتوقع كل هذا الاختلاف، فعلا.. الماكياج أصبح لوحده فنا سينمائيا عريقا”. وقالت ماريون كوتيار، الحائزة على أوسكار أفضل ممثلة في الفيلم “كنت أعرف أنه، ومهما كان أدائي للشخصية جيدا، إنما إذا لم يكن الماكياج جيدا، فسيكون من المستحيل بالنسبة للجمهور أن يصدقه”، وقالت عن الماكيير الشهير ديدييه لافوغن، إنه حقق عملا مدهشا في هذا المجال، رغم عدم امتلاكه للوقت الكافي الذي تتطلبه بالعادة التحديات الضخمة كما في هذا العمل. وإذا علمنا أن الإخراج الناجح هو ذاك الذي يمتلك قوة الإقناع عبر مجموعة أدوات تتشابك وتتعاون بينها في ما يمثل حالة من الهارموني، إذ لا ينبغي لأي عنصر أن يعلو على صوت غيره فيشكل نشازا فاضحا، فإن سر نجاح هذا الفيلم الذي تناول واحدة من أكبر علامات فرنسا الفنية، هو ذلك الانسجام التام بين فريق العمل التقني والتمثيلي، وقدرة المخرج على النفاذ إلى روح إديت بياف، التي وصفت بـ“الجبّارة”. وتقول ماريون “عندما أدركت أن المخرج أوليفيه دهان أراد فعلا أن يصنع الفيلم معي، لم أستطع الانتظار إلى أن يبدأ، أعطاني كتاب جين نولي، الذي يتناول آخر ثلاث سنوات من حياة بياف، إعجابي بها ازداد عندما اكتشفت نوع الحياة التي خاضتها”. ووصف نقاد سيناريو الفيلم بأنه كان “استثنائيا”، فلقد بنى أوليفر صورة لبياف حميمة ومتوازنة وغاية في الإنسانية، فلقد كان نصه مليئا بلحظات قوة وبمواجهات لحياة دراماتيكية متغيرة، وبانكسارات وبهروب وبأمل.. وبكثير من الحب. وعن لحظات الذروة في الفيلم، قالت بطلته ذات الأداء المدهش “الفيلم العادي يحتوي فقط على مشهد واحد يصل الذروة، أما هذا الفيلم فمَليء بهذه المشاهد، في الواقع.. هذا ما يفسر لماذا عاشت بياف، فقط سبع وأربعين سنة”. اللحظات التي تتحضر فيها الذاكرة بين الكهولة والطفولة، كانت تنساب مثل موسيقى إديت بياف، وصوتها الذي يوحي بأنه يخترق الزمان، مثل التداخل بين لحظة اعتلائها خشبة المسرح وهي بكامل كبريائها وأوج تألقها، وبين وقوفها على الرصيف وغنائها في الحانات القذرة أيام البؤس والشقاء. وهي لقطة استخدم فيها المخرج بذكاء وشفافية خلفية الموسيقى الهادئة. ووفق بنية التقطيع السينمائي، مع براعة المونتاج في مزج الصوت بالصورة؛ يقول الناقد مصطفى عطية جمعة “كنا نرى المناظر متتابعة، متضادة في الأزمنة والأمكنة، وكان ماكياجها وملامح وجهها ما بين نضارة الشباب وبين تجاعيد الكهولة، وحركتها البطيئة وهي تتوكأ على الجدران.. وتلك روعة الفيلم، أنك تتنقل بين اللقطات زمنيا ومكانيا دون أن تشعر بأي فقدان للاتصال مع الفيلم”. المتابع لفيلم “الحياة الوردية” يحس بتلك الانسيابية العذبة في الانتقال بين مراحل عمرية مختلفة يختلط فيها الرفاه بالبؤس، والفرح بالانكسار دون أن يشكل ذلك نشازا أو تغيرا في إيقاع الفيلم الممسوك بمهارة قل نظيرها.

مشاركة :