ينتصب جدار برلين من جديد بعد ثلاثين عاما على سقوطه، بفضل الواقع الافتراضي من خلال شركة ألمانية ناشئة تتيح للسياح العودة بالزمن عبر رحلة إلى برلين الشرقية الشيوعية. تقترب الحافة من حاجز “تشكبوينت تشارلي”، الذي كان وقتها أشهر نقطة عبور بين الشطرين الشرقي والغربي لبرلين. ويتبادل جنود أطراف الحديث بصوت خافت من دون أن تظهر أي ملامح على وجوههم. وبعد توتّر الأجواء لدقائق، انطلقت الحافلة مجدّدا. ووصل الركاب إلى برلين الشرقية التي يلفّ الضباب أبنيتها المغطاة بالسخام. أهلا وسهلا بكم في عاصمة دولة لم تعد قائمة! أطلقت شركة “تايم رايد” الناشئة هذه الرحلات الافتراضية، التي تستغرق ساعة من الوقت في نهاية أغسطس، قبل الفعاليات الاحتفالية بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين في التاسع من نوفمبر. وقال يوناس روتي، مؤسس “تايم رايد”، “تقوم فكرتنا على تقديم صورة افتراضية مثالية، إذ تتعذّر علينا العودة بالزمن”. وأوضح روتي (33 عاما) “نحن لا نريد أن نكون بمثابة متحف. نريدكم أن تشعروا بأنه لكم كلمة في التاريخ”. ويلبّي مشروعه هذا طلبا متناميا على سياحة “أصلية” وتفاعلية وانغماسية، لاسيما في برلين التي تغيّرت ملامحها كثيرا منذ التاسع من نوفمبر 1989، بحسب روتي. وغالبا ما كان يخيب أمل السياح الوافدين إلى برلين عندما يتبيّن لهم أنه لم يبق الكثير من الآثار من “جدار العار”، الذي قسّم المدينة إلى شطرين لأكثر من 28 عاما. ومنذ انهيار النظام الشيوعي، اندثر هذا الجدار الإسمنتي من المشهد الحضري، إذ حرص سكان برلين على التخلّص من هذا الرمز الذي يذكّرهم بماضيهم الأليم. وتبدأ الرحلة باستعراض وجيز لتاريخ برلين ما بعد الحرب عندما قسّمت ألمانيا إلى أربعة قطاعات. وفي العام 1961، شيّد الجدار في خلال ليلة، في مسعى إلى لجم النزوح الكثيف من الشرق إلى الغرب. ثلاث شخصيات افتراضية تبحث عن الحقيقة هي؛ شاب يعتمد أسلوب البانك وحرفي ومهندسة، تقدّم نفسها للجمهور الذي يختار أحدها ليكون مرشده السياحي، ثم يضع الجمهور نظارات للواقع الافتراضي ليجوب من خلالها شوارع برلين الشرقية، من فريدريشتراسه إلى لايبتسيغر شتراسه، حيث تصطف مبان نموذجية من تلك الفترة. وفي سيارات لا تحمل لوحات تسجيل، تراقب عناصر الاستخبارات سكان ألمانيا الشرقية، في حين تتشكّل طوابير انتظار طويلة أمام المتاجر التي تنقصها السلع الغذائية والمنتجات الطازجة، وتبثّ دعايات الدولة الشيوعية عبر مكبّرات للصوت. وتبدو المشاهد كأنها واقعية ولا تنقصها سوى الرائحة الكريهة المنبعثة من سيارات ألمانيا الشرقية. وأفاد روتي “لا شك في أن الروائح هي التي تحيي أكبر قدر من الذكريات، لكن من الصعب إعادة تركيبها من دون أن يصاب الجمهور بصداع في الرأس”. وتنتهي الجولة بالحافلة أمام قصر الجمهورية الذي كان يقوم مقام برلمان ألمانيا الشرقية، وقد هدم في العام 2008. وتعرض مشاهد لحشود يعمّها الفرح بعد إحداث فتحة في الجدار ليعبر من خلالها الألمان. وتابع روتي “هذه المشاهد تحرّك دوما مشاعر الناس، وهي مرحلة حاسمة في تاريخ ألمانيا وأوروبا والعالم بأسره”. وتلقى هذه الرحلة الافتراضية استحسان الزوار. ويقول كولن ماكلين، وهو اسكتلندي يرغب في معرفة المزيد عن ألمانيا الشرقية، إذ ترعرعت زوجته في ظلّ الحكم الشيوعي، “يعجبني هذا النوع من الكآبة الذي نجده في أفلام التجسّس”. وأكد روبرت ماير، وهو ألماني من الغرب، غالبا ما كان يزور عائلته في الشرق، أن “طريقة نقل مشوار عبور الحدود جدّ واقعية”. لكن هذه الرحلة الافتراضية لا تتطرّق إلى المحاولات الكثيرة، التي بذلت في هذا الصدد للهروب من الواقع المرير في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وقد لقي حوالي 327 شخصا حتفهم خلال محاولتهم العبور من الشرق إلى الغرب، وفق دراسة أجريت لحساب الحكومة الألمانية. وتتيح تقنية الواقع الافتراضي بالنسبة إلى الشباب، فرصة الغوص في حقبة من التاريخ لم يعايشوها، بحسب آنا كامينيسكي المسؤولة عن مؤسسة لدراسة الديكتاتورية الشيوعية في ألمانيا الشرقية، مؤكدة “لابدّ من الاستعانة بالتقنيات الجديدة لإطلاع الجيل الجديد على هذه الحقبة من التاريخ، وكي يعرفوا كيف كانت الأحوال في زمن الجدار”.
مشاركة :