لبنان والعراق دولتان عربيتان هما الأكثر تشوهاً بالسياسة شديدة الطائفية، ولذا من المطمئن، بل من الملهم، أن تهتز البلدان باحتجاجات حاشدة علمانية تماما في طبيعتها. لكن من المؤسف أن هذه الاحتجاجات مقدر عليها الفشل على الأرجح. والاحتجاجات التي تفتقر لكل من التنظيم وقائمة الأولويات البراجماتية فرصتها ضعيفة في تغيير الهياكل السياسية الطائفية تماما في كلا البلدين.. ولو كان هناك أي مما يكن الاسترشاد به من التاريخ الحديث لعمليات التمرد في الجوار، لوجدنا أن المؤسسة الطائفية ستسيطر على الاحتجاجات وتخطف أي تنازلات يحصل عليها المحتجون من مراكز القوى في بيروت وبغداد. والتغير الهيكلي يحتاج إلى حركة سياسية واسعة القاعدة ومنظمة ومركزة لا تسعى فحسب إلى مستوى معيشة أفضل، لكن إلى تحقيق وحدة وطنية احتوائية ومتسامحة في مقابل الهويات الطائفية والعابرة للدول التي تستغلها الجهات الخارجية بسهولة. والأمر يحتاج إلى قيادة سياسية معروفة ويمكن محاسبتها تمثل قاعدة الاحتجاجات وتتفاوض مع الجماعات الأخرى ويمكنها المشاركة في سياسات الانتخابات. وليس هذا ما يحدث في لبنان والعراق. ففي لبنان، تدفق المحتجون من كل الطوائف الدينية ومشارب الحياة معبرين عن غضب عام ضد سنوات من سوء الإدارة والافتقار إلى الخدمات الأساسية وكارثة اقتصادية تلوح في الأفق. ووجهوا غضبهم إلى زعمائهم الطائفيين. فقد أدان الشيعة حزب الله وانتقد المسيحيون الرئيس ميشال عون وأدان السُنة رئيس الوزراء سعد الحريري بسبب الفوضى المؤسفة. وفي العراق، اقتصرت الاحتجاجات إلى حد كبير على مدن الغالبية الشيعية مثل بغداد والبصرة. ولم تنتشر في المناطق ذات الغالبية السنية في الغرب أو إلى المناطق الكردية في الشمال لأن كلاهما له أولويات مختلفة. فمازال السنة يتعافون من الخراب الذي نشرته «داعش» والأكراد منشغلون ببناء منطقتهم التي تتمتع بشبه استقلال. لكن الحكومة العراقية التي يتزعمها الشيعة تواجه في المنطقة التي تحكمها بشكل مباشر غضبا من طائفة الأغلبية خاصة من الشباب العاطل عن العمل. و وفي لبنان، أصدر «حزب الله» تهديدات بالويل وسعى إلى ترهيب السياسيين ونشر حشوداً من الاحتجاجات المضادة لترهيب المحتجين. وفي العراق كان رد الفعل أشد عنفا. فقد قتل أكثر من 150 محتجاً معظمهم برصاص قناصة. واعترفت الحكومة بأن قواتها الأمنية وميليشيا مدعومة من الخارج قد استخدمت القوة المفرطة. ومازال العراق متوترا رغم أن الاحتجاجات تلاشت نوعا ما. وفي لبنان مازالت الاحتجاجات مستمرة بلا كلل. لكن تلقائية وزخم هذه الاحتجاجات الانتقاضية لا يمكن أن تخفي ضعفها الأساسي. فالاحتجاجات ليس لها أهداف سياسية واضحة، بل مطالب اجتماعية اقتصادية. والأرجح أنه سينالها التعب في نهاية المطاف وسيجري استرضاؤها بوعود الإصلاح من ذاك النوع الذي أعلنته حكومة الحريري التي إما أنه لن يتم الوفاء بها تماما أو احتواؤها في العملية المعتادة لسيطرة وفساد النخب القائمة. وهذا ما حدث تماما في الدول التي شهدت احتجاجات الربيع العربي. وباستثناء تونس، فشل جميعها في تحقيق الإصلاحات الديمقراطية المطلوبة، وسقطت في صراعات السلطة بين النخب القائمة وأحزاب الإخوان المسلمين. وفي نهاية المطاف تبين أن شعبية الإسلاميين أضعف من أن تَهزمَ ما يمثل الأنظمة القديمة في ثياب جديدة. ويرجح أن تسحق هذه الآلية نفسها تطلعات المحتجين اللبنانيين والعراقيين، لأنها احتجاجات ليست ثورة منظمة بل تمرد شعبي ومشاعر المحتجين العلمانية، بصرف النظر عن سعة انتشارها، لا يرجح أن تسود على هياكل السلطة الطائفية المحتمية بخنادقها. وفي كلا البلدين، هناك أساس طائفي كامن في الهياكل السياسية الأساسية. وفي لبنان، لهذا أساس في النظام الدستوري، والسياسة اللبنانية تقوم كليةً تقريبا على أساس الطوائف، فالوظائف الأساسية مثل الرئاسة ورئاسة الوزراء وقيادات الجيش والبنك المركزي مخصصة لطوائف بعينها وكل المقاعد البرلمانية تقريبا تقسم على أسس عرقية ودينية. وفي العراق، هناك نظام حصص على أساس طائفي عرقي يحتجز بالمثل الوظائف المحورية للشيعة والسنة والتركمان والأكراد وهناك نظام رعاية طائفي غير رسمي يتولى أمر باقي الوظائف. والمحتجون ربما لا يسعدهم الوضع الراهن لكنهم لم يحددوا ما يتطلعون إليه ولم يظهروا قدرة على الدفع نحو التغير. وفي لبنان، لم يستشرف أحد بديلاً عملياً للنظام الطائفي السائد، ولذا فأقصى ما سيتحقق سياسياً هو نقل رسالة تحذير لـ«حزب الله» من تقلص شعبية. ويتعين على حسن نصر زعيم «حزب الله» أن يعلم الآن أنه لم يعد بوسعه أن ينجو من تحمل مسؤولية فشل الدولة. وفي العراق، يتعين على الزعماء الشيعة أن يعلموا أنه يتعين عليهم أن يحسّنوا أداءهم. لكن لا توجد ضغوط حقيقية عليهم ليكونوا أكثر احتواء للآخرين. ومن المرجح الحصول على بعض التنازلات في القضايا الاجتماعية الاقتصادية مثل خصخصة شركات الاتصالات وإدخال إصلاح ضريبي في لبنان وبرامج للوظائف وإعانات بطالة في العراق. لكن أي فوائد في نهاية المطاف تتحقق من الإصلاحات من شبه المؤكد أن تصب في أنظمة السلطة الحالية التي يهيمن عليها الفساد والمنافع الشخصية والقوى الطائفية. وبسبب الافتقار إلى نظام آخر في هذه المجتمعات، ستبتلع الطائفية في نهاية المطاف كل شيء يواجهها.
مشاركة :