بينما كنت أبحث عن مادة فيلمية لأحد لقاءاتي التليفزيونية، فإذا بالصدفة البحتة تقودني إلى مقطع فيديو عن السيدة أم كلثوم، التي أُلم تقريبًا بكل تفاصيل مشوارها الفني، إلى أن أصبحت قيثارة الشرق، أو كوكب الشرق وغيرها من الألقاب التي خلعها عليها عشاق فنها؛ وفي نفس الوقت قادتني ذات الصدفة إلى الوصول إلى تسجيل نادر لأغنية الربيع للموسيقار الكبير فريد الأطرش، الذي خلعت عليه الشعوب العربية عددًا من الألقاب التكريمية أيضًا.ولعل البعض يسأل: ما الجديد الذي توصلت إليه عن هذين العملاقين؟الفيديو الأول كان لعرض في قاعة كريستز بدبي العام الماضي لبيع بعض مقتنيات أم كلثوم من الحلي والمجوهرات الثمينة. أخذت أتابع العرض بشغف، وأنا أتساءل في ذهول: كيف لتراثنا أن يباع في مزاد علني؟ فأم كلثوم ليست إنسانًا عاديًا، وليست وليدة الصدفة، هي ببساطة هرم مصر الرابع. قالت مشرفة صالة كريستز البريطانية الجنسية: "إنها المرة الثانية التي نعرض فيها مقتنيات لأم كلثوم، حيث لاقت نجاحًا باهرًا في المرة الأولى، فقد بيع عقد من اللؤلؤ كان قد أهداه لها الشيخ زايد آل نهيان-حاكم الإمارات وقتها- بأضعاف السعر الذي فتح عليه المزاد. وهذا دفعنا لأن نعرض اليوم مجموعة أخرى من مقتنياتها من المجوهرات".واللافت للنظر أن من بين تلك الحلي بروش أهداه لها محمد رضا بهلوي، شاه إيران، بمناسبة زفافه من الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق، وكان الثمن المقدر له بخس للغاية، 5000 دولار، رغم أنه من الماس والأحجار الكريمة الأخرى.وهنا أتساءل: "من المسئول عنه هذا الجرم الذي اُرتكب في حق مصر؟ وكيف خرجت هذه المجوهرات من مصر؟ لقد تم التفريط من قبل في أهم آثار أم كلثوم، أعني فيلتها في الزمالك، والتي اشتراها أحد الأثرياء العرب، بدراهم معدودات، وهُدمت بعد ذلك لتصبح أثرًا بعد عين".وهكذا، ضاع واندثر أهم أثر لسيدة الغناء العربي! ورغم تعالي الأصوات لوقف تلك المأساة، جاءت تصريحات وزير الثقافة وقتها: "لو كان الورثة عايزين يهدوا الفيلا للوزارة، سنحولها لمتحف لأم كلثوم"، وأصبح سيادته بكلامه هذا متساويًا مع المقاول الذي أجهز على التاريخ بالعِدد والشماريخ.واليوم، ارتكبت جريمة ثانية في حق الشعب المصري، عندما عرضت مجوهرات وحلي كوكب الشرق للبيع في مزاد علني! لماذا لم يتحرك المسئولون المصريون على الصعيد الرسمي لوقف تلك الجريمة التي تمت في حق مصر؟ ألا تستحق أم كلثوم منا بعض الوفاء، فما قدمته للمجهود الحربي بعد نكسة 67 ليس بالقليل؟أما الفيديو الثاني الذي شاهدته فكان حفلًا للموسيقار فريد الأطرش، أقيم في استاد الإسكندرية لصالح صندوق خدمة الطالب، ونظمه اتحاد طلاب كلية التجارة في 26/8/1972م، أي حفلًا تطوعيًا بلا أجر من فنان كبير في حجم فريد الأطرش. وبعد مشاهدتي لهذين الفيديوهين، قلت لنفسي: ماذا قدمنا للحفاظ على تراث عمالقة مصر أمثال: نجيب الريحاني، يوسف وهبي، بديع خيري، محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، نجيب محفوظ، يوسف السباعي، توفيق الحكيم، أحمد زويل وغيرهم كثر؟ ماذا قدم وزراء الثقافة من السبعينات من القرن الماضي وحتى اليوم للحفاظ على تراث الموسيقار فريد الأطرش، على سبيل المثال، بخلاف التمثال الذي وضع في باحة دار الأوبرا، واللوحة التي ثبتت على مدخل عمارته؟ هل فكرت الوزارة في تحويل مسكنه، الواقع في الدور الأخير منها إلى متحف يحفظ له ما تبقى من مقتنياته، ليظل يُذكر رواده أن مصر هي حاضنة الفن العربي؟أناشد وزيرة الثقافة الواعية التدخل للحفاظ على تراث العمالقة، ووقف جميع عمليات انتهاك التراث الإنساني المصري بجميع أشكاله، والتواصل مع صالة مزادات كريستز لوقف أية عمليات بيع لما تبقى من تراث أم كلثوم!ويبقى سؤالي الحائر دومًا: متى سيتم إنشاء متحف الخالدين أسوة بالدول المتحضرة، لنحفظ فيه تراث عمالقة مصر من الفنانين والأدباء والشعراء والعلماء وغيرهم؟
مشاركة :