الحدث الأبرز في مفتتح هذا الموسم الثقافي هو المعرض الذي يقام حاليا في متحف اللوفر للعبقري الفلورانسي ليوناردو دافينشي، تحت إشراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقد استوجب إعداده نحو عشر سنوات، لجمع ما أمكن جمعه من لوحات ورسوم ومخطوطات موزعة في أماكن كثيرة من العالم. باريس – تنظيم المعارض ليس جديدا على اللوفر، واستقبال الزوار بأحجام كبيرة بلغت العام الماضي عشرة ملايين زائر من تقاليده المعتادة، ولكن المعرض الذي تم تدشينه، الخميس، ويتواصل حتى الرابع والعشرين من شهر فبراير 2020 إحياءً لذكرى وفاة العبقري ليوناردو دا فينشي (1452-1519) حدث عالمي فريد تشوّق إليه عشاق الفن وروّاد المعارض منذ مدة، ما دفع الساهرين على تنظيمه إلى فتح باب الحجوزات منذ يونيو الماضي، لاستقبال الزوار على دفعات، وفي أوقات محددة، كما هو الشأن في عروض الأوبرا. وقد استوجب إعداده عشر سنوات، جاب خلالها فنسان دولويفان، ولوي فرانك مفوّضا المعرض، وكزافيي سالمون، مدير قسم الفنون الخطوطية، عدة بلدان لجمع نحو مئة وثمانين عملا فنيا، من بينها إحدى عشرة لوحة، وقَدْر غير قليل من الرسوم والدفاتر والمخطوطات، إلى جانب أعمال لأساتذة دافينشي وتلاميذه. بين تلكؤ وقبول لم يكن جمع تلك الآثار يسيرا، فلئن كان بحوزة اللوفر خمسُ لوحات هي عذراء الصخور، حداد جميل، موناليزا، يوحنّا المعمدان، والقديسة آن، واثنان وعشرون رسما، فإن بقية ما أقر ّالخبراء نسبته إلى دافينشي موزعة في المتاحف الأجنبية والتشكيلات الخاصة. بعضهم استجاب عن طيب خاطر كالملكة إليزابيث الثانية، وبيل غيتس، والمتحف البريطاني، وناشيونال غاليري بلندن، ومتحف متروبوليتان بنيويورك، وبيناكوتيكا الفاتيكان. وبعضهم الآخر تلكأ حتى آخر لحظة، مثل متحف إرميتاج سان بطرسبورغ الذي لم يقبل إعارة لوحة “السيدة بونوا” إلاّ مؤخرا، وكذلك غاليري أكاديمية البندقية الذي لم يتنازل عن إعارة رسم “الرجل الفيتروفي” إلاّ بعد مفاوضات طويلة وتدخل من القضاء والدبلوماسية. ومرد ذلك دائما هشاشة لوحات دافينشي، شأن سائر آثار عصر النهضة، وهو السبب الذي يجعل الموناليزا مثلا لا تغادر مكانها، حتى خلال هذا المعرض. وما زال هواة الفن ينتظرون بشوق بالغ لوحة “سالفاتور موندي” (مخلّص العالم) التي يقال إنها على ملك أحد أمراء الخليج، وافق هو أيضا على إعارتها للمتحف. وقد استغل المشرفون فترة الإعداد تلك لمزيد الغوص في عمل الفنان وحياته، فقد خصوا العبقري الفلورنسي بدراسات معمّقة، وأخضعوا أعماله لسلسلة من التحاليل العلمية، والبحوث التاريخية والفيلولوجية بالاستعانة بباحثين متخصصين في عصر النهضة مثل مؤرخة الفن ستيفانيا تولّيو كاتالدو التي راجعت نصوصا يسرد فيها مؤسس تاريخ الفنون جورجو فاساري (1511-1574) من حياة دافينشي، لاستخلاص ما يضيء عمله وفنه وجوانب من بيئته. أي أن اللوفر جنّد كل طاقاته لجعل هذا المعرض الاستعادي الفريد وسيلة لفهم مقاربة دافينشي في جعل الفن التشكيلي فوق كل اعتبار، وكيف جعل بحثه عن العالم، الذي أسماه “علم الرسم الفني” أداة لفنه، ومطمحا لإضفاء الحياة على لوحاته. دافينشي كان الرمز الأول لعصر النهضة، ولئن عدّه النقاد أعظم رسام على مرّ العصور، فإن مؤرخي الفن أشادوا بتوقه الدائم إلى البحث والاكتشاف، وتميزه بدقة الملاحظة والخيال الخصب والموهبة الفطرية، ما قاده إلى الجمع بين مجالات متعددة لم يؤلف بينها قبله ولا بعده أحد، واستنباط أفكار ونظريات لا تزال حاضرة في عدد من اختراعات عصرنا الحالي. فإلى جانب الفن التشكيلي الذي أقام عليه مجده بفضل لوحات قليلة في عددها، عظيمة في عمقها وقوتها التعبيرية، برع أيضا في النحت والهندسة المعمارية والميكانيكا والعلوم والموسيقى والتصوير المشهدي. فقد كان يحمل أفكارا سابقة على عصره، وضع رسوما تخطيطية لآلات مبتكرة كالطائرة والمروحية والمدرّعة والسيارة، لم يجد الوقت ولا المال لإنجازها، أو أنها لم تكن قابلة للإنجاز بوسائل ذلك العصر. وكان إلى ذلك منظّرا دوّن أفكاره في كتب ثلاثة في فن التصوير والتشريح والميكانيكا، وعالِما عمل كثيرا على تطوير المعرفة في مجالات التشريح والديناميكا المائية وعلم البصريات. ومخطوطاته التي دوّن فيها ملاحظاته ومشاريعه كتابةً (وإن مقلوبة، فهو يكتب من اليمين إلى اليسار، وقراءة مخطوطاته تتم باستعمال مرآة) أو رسمًا، تشهد على طرافة منهجه في العمل، والمجال الواسع لاهتماماته. ومن النادر أن نجد شخصا واحدا تجمعت فيه كل تلك المواهب، فهو رسام ونحات ومهندس، وفيلسوف وعالم رياضيات ونبات. وقد حرص المعرض على رسم بورتريه شامل لرجل فنان مارس حريته بامتلاء، حتى أن فنسان دوليوفان صرّح منبهرا “ينتابنا شعور بأننا أعدنا الحياة إلى مرسم ليوناردو دافينشي”. تنقلات جغرافية يحتل المعرض رواق نابليون، تحت سقف هرم اللوفر، الذي رسم هندسته قبل ثلاثين عاما المهندس الأميركي من أصل صيني إيوه مينغ باي. وقد جعلت الزيارة وفق مسار يسلط الضوء على عمله من زاوية تنقلات دافينشي الجغرافية. ندخل المعرض المغمور بأضواء خافتة وكأننا ندخل حميمية عبقري النهضة الإيطالية. في القاعة الأولى التي تحمل عنوان “ظل وضوء وتضاريس”، نصادف مرسم الفلورنسي أندريا ديلفيرّوكيو (1435-1488) الذي تتلمذ عليه دافينشي في سن الثانية عشرة، وسرعان ما اكتشف أن الأشكال لعبة تتراوح بين الضوء والظل. هنا تتجلى موهبته منذ أعماله الأولى التي استعمل فيها الدهن والماء واللصق على قماشة من الكتان. تليها أعمال أخرى على أنسجة من الصوف عكست امتلاكه أدواته الفنية مثل “البشارة” و”سيدة القرنفل” ومناظره الطبيعية الأولى في وادي أرنو، حين بدأ يحس وهو لم يتخطّ الواحدة والعشرين من عمره أنه منذور لكي يكون فنانا من طراز عال. ثم ندخل القاعة الثانية التي تحمل عنوان “حرية” فننبهر بانطلاقة الفتى ليوناردو الفنية، حيث بدأ يبحث عن إعادة خلق الحياة في الحركة، وإبراز اهتزازات الأنفاس، كما في لوحة “سيدة بونوا” (أو مادونا بينويس كما هو شائع)، القادمة رأسا من إرميتاج سان بطرسبورغ. ننتقل إلى القاعة الثالثة، فنجد الشاب ليوناردو وقد انتقل هو أيضا إلى مدينة ميلانو، حيث نقف على رسوخ قدم الفنان الفلورنسي، من خلال ثلاث لوحات بديعة هي “القديس جيروم تائبا” (أو سان جيروم في البرية كما هو متداول) و”قرط الجبين الجميل” (أو حداد جميل كما هو شائع) ويمثل بورتريه لسيدة اختلف المؤرخون حولها، فهي في نظر بعضهم إحدى عشيقات الملك فرنسوا الأول، وفي نظر آخرين سيدة من مدينة مانتوفا الإيطالية، قبل أن يستقر الرأي على تسمية اللوحة بالقرط الذي تُكلل به تلك السيدةُ جبينَها. والثالثة “عذراء الصخور” التي تبرز دقة دراسة اليد بفحم الحطب، ورقتها حتى أنها تبدو نابضة بالحياة، ثم دراسة وجه الملاك برأس المعدن دراسة توحي بأننا نكاد نسمع أنفاسه، فنحس أن المعرض يرينا كيف أن الرسم كان الغاية القصوى لليوناردو، وأنه يستوحي ذلك من بحوثه العلمية. القاعة الرابعة، كما يدل عليها عنوانها، خصّصت للعلم، ندخلها فإذا نحن في مختبر ليوناردو أمام نحو عشرين مخطوطا، ما بين رسوم وتحاليل عن الرياضيات والهندسة وعلوم التشريح والفلك والنبات. ودفاتر صغيرة الحجم كان قد دوّن عليها بالحبر البنّي رسوما وملاحظات، ما يقيم الدليل على هوسه بالتفاصيل، وسعيه الدائب إلى البحث والتقصي، والاندهاش أمام الكون والطبيعة وألغاز الحياة، ثم تدوين كل ذلك في دفاتره كي يعود إليها عند الحاجة. هنا نجد الجمجمة المقسومة شطرين التي أعارتها ملكة إنكلترا، ومخطوطات عن العلوم الفلكية على ملك بيل غيتس. ما يؤكد هاجس ليوناردو العلمي. أما القاعة الخامسة، وعنوانها “حياة” فقد خصّصت للفن الذي يلتقط الحياة والأنفاس، ويدرك دواخل الكائنات، وهذا يجد نضجه واكتماله في الجوكوندا “موناليزا”، ولكنها لم تغادر مكانها كما أسلفنا، نظرا لشدّة هشاشتها، ولكن بفضل سحر العلم ومبتكراته، إذ يمكننا أن نرى ما لا يرى بالعين المجردة، فقد أخضعت لتجربة تقنية تعتمد على الواقع الافتراضي، بالتعاون مع شركة High Technology Computer Vive Art، وتسمح للزوار بالتفاعل مع اللوحة، والغوص في عالمها لاكتشاف تقنيات الفنان الرهيفة باستعمال الأشعة تحت الحمراء، كالتغيير والتعديل والمحو وما إلى ذلك مما يخفى، لاسيما في مستوى يدي ليزا غيرارديني، زوجة فرنشيسكو ديل جوكوندو. مثلما تسمح بالنفاذ إلى رسومه ومخطوطاته ولوحات معاصريه. وقد أبدع ليوناردو في استعمال تقنية سفوماتو (المجسّم الضبابي) حيث اعتنى بالأطراف وتصرف في الظل والضوء على نحو يوحي بأننا أمام إطلالة غير واقعية، هي تعبير عن لغز الحياة. كذلك لوحة “سكابلياتا” أي الشعثاء (ويشار إليها عادة برأس امرأة)، وهي لوحة غير مكتملة، أنجزها دافينشي عام 1508، واستعارها اللوفر من غاليري مدينة بارما. وفيها تتجلى محاولة ليوناردو الإمساك بحركات الروح. ويختتم المعرض برسم بالحجر الأسود يمثل الطوفان، يعبر عن فلسفة ليوناردو دافينشي ووضوح رؤيته عن فَناء الحياة أمام قوة الطبيعة وخلودها. ذلك الإحساس بالفناء الذي نستشعره في البسمات التي رسمها، هنا وهناك، وكأنه يرمز بها إلى الزمن الذي يمضي، والحياة التي لا تدوم. حتى لوحاته التي لم تكتمل تساهم في هذا الشعور، حتى أن بعض النقاد قال إن تلك اللوحات لو اكتملت لتخدّرت فيها الحياة. تلاه بورتريه لليوناردو بريشة فرنشيسكو ميلزي (1491-1570) ويبدو فيه مطرقا يمد بصره إلى أفق لا يعرف مداه. عن الفنان وآثاره الجدير بالذكر أن المعرض مشفوع بسلسلة من المحاضرات تتناول شخصية دافينشي وآثاره، نخص بالذكر منها: دافينشي بين الفن والعلوم، ليوناردو في الأدب الإيطالي في عصر النهضة، في مشغل ليوناردو، ليونارد الكتابة تتحرك.. هي مناسبة لمن يريد أن يوسّع البحث في شخصية هذا الفنان المقتدر، الذي جمع كل علوم عصره، وسخّرها لخدمة فنه. هي فرصة فريدة لعشاق فن النهضة الإيطالية، أن يكتشفوا من جديد العبقري ليوناردو دافينشي من خلال مجمل أعماله، ويطلعوا على ما تم تصويبه من سيرته وآثاره بفضل التوثيق التاريخي المحيّن، الذي أشرف عليه مركز بحوث وصيانة المتاحف الفرنسية.
مشاركة :