اختلفت نداءات فقهاء دين شيعة، وهم من المراجع خارج مراجع النَّجف الأربعة: علي السيستاني (إيراني) ومحمد سعيد الحكيم (عراقي) وبشير النَّجفي (باكستاني) وإسحاق فياض (أفغاني)، اختلفوا بخطاباتهم التي ألقوها مِن مكاتبهم مسجّلة، شادّين بها أزر المتظاهرين. منهم مثلا حسن الموسوي، آية الله العظمى، كانت كلمته ضد إيران والولي الفقيه، وقد عنون كلمته المسجلة بـ”رسالة إلى علي خامنئي”، طالباً منه ترك العراق ورفع يده عن مقدراته، والكف عن دعم الميليشيات، موضحاً أن العراق ليس كغيره من البلدان، لا يقبل الهيمنة الإيرانية بأي شكل من الأشكال، وأن الحرب التي كانت بين العراق وإيران (1980-1988) قد تركت جروحاً في نفوس العراقيين. وهذه الأحزاب الدينية، التي كانت تُقاتل مع الإيرانيين، ليس لها تلك الشعبية داخل العراق، وليس لها التصرف بدماء وثروات العراق لولا الدعم الإيراني المباشر. الأحزاب الدينية التي كانت تُقاتل مع الإيرانيين، ليس لها تلك الشعبية داخل العراق، وليس لها التصرف بدماء وثروات العراق لولا الدعم الإيراني المباشر مع علمنا أن ما وجهه آية الله حسن الموسوي إلى خامنئي كان قد وجهه له المتظاهرون من قبله، عبر هتاف “إيران برّه برّه”، الذي ردّده متظاهرو السنوات السابقة أيضاً، ومما لا يقبل الشك أن الغرور الإيراني بوجود أذرعها المسلحة الميليشياوية أخذ بالأفول، وكانت صدمة شديدة، وقعت على الإيرانيين، أن يصدر الرفض من المناطق الشيعية بالذات، وهم يعتبرون أي أرض يقطنها الشيعة أرضهم، وتمتد إليها ولاية نائب الإمام علي خامنئي. لهذا جاء الرَّد الإيراني قوياً بتوجيه القنّاصين الملثمين من الميليشيات، وهو الأسلوب نفسه، الذي اُستخدم في قمع التظاهرات في سوريا سنة 2011، ومعنى ذلك أن القنّاص واحد. من جانبه ركز المرجع، الإشكالي في الساحة الشيعية، كمال الحيدري، على الأحزاب الدينية الحاكمة داخل العراق، وعلى الفساد الذي لم يسبقه نموذج في العالم، وفي تاريخ العراق، مركزاً على أن الأحزاب الدينية قد فشلت فشلاً ذريعاً، بزيادة الفقر والتخلف، وفوضى الجماعات المسلحة. وعلى ما يبدو أن كمال الحيدري لم يقلّ درجة في رفض ولاية الفقيه عن حسن الموسوي، لكنه لم يتعرض للولاية في كلمته، التي آزر بها المتظاهرين الشباب، والسبب ربَّما أنه يُقيم في قم الإيرانية. إذا كان حسن الموسوي غير ذائع الشهرة، إلا أن كمال الحيدري يبدو بين الشيعة نارا على علم، وذلك من خلال تسجيلاته التي تٌبث على اليوتيوب، عندما يُلقيها على تلامذته، وفيها خلاف تام مع بقية المراجع الدينية الكبار، سوى كان في قضية الإمامة، والتي لا يرى من الأحاديث التسعة عشر التي تؤكدها غير حديثين صحيحين، وبالتالي، ومن دون أن ينطق أنه يرفض ولاية الفقيه، ذلك إذا علمنا أن منصب الولي الفقيه هو نائب الإمام الغائب المهدي المنتظر. وأعلن كمال الحيدري موقفه الرافض لسلطة الأحزاب الدينية، والفساد العارم في العراق، مطالباً هذه الأحزاب بالتخلي عن السلطة، وتعديل قانون الانتخابات الذي أسس لدكتاتورية تلك الأحزاب. أما آية الله فاضل المالكي، فكان ضد السياسة العراقية والهيمنة الأجنبية، الإيرانية والأميركية، منذ بداية النظام الجديد (2003). وهو لم يعد إلى العراق، وفي كل انتخابات يعلو صوته بضرورة انتخاب النزيه وصاحب الخبرة أو تحريمها. يعد الشيخ فاضل المالكي من الخطباء المتفوّهين المؤثرين عبر خطبهم ذات القوة اللغوية والتفنن بالإلقاء، لكن يبقى قليل الأتباع، قياساً بالمرجعية المعروفة. يرفض فاضل المالكي المرجعية نفسها، وتدخلها المباشر في السياسة، عبر تأييدها لحكومة تلك الأحزاب، وإن كان لم يذكرها بالاسم، لكنه في كلمته المؤازرة للمتظاهرين أشار إليها بوضوح، وهو رفض الشعار الذي وضعته المرجعية، في تولي المناصب الكبرى، وهو “المجرب لا يُجرب”. غير أن أقوى خطبة سبقت التظاهرات بيومين كانت لخطيب الجمعة في سوق الشيوخ خضير الحسيني، الذي كان يتلفّع بالكفن، على عادة محمد مهدي الخالص المتوفى سنة 1963 ومحمد محمد صادق الصدر الذي اُغتيل سنة 1999. كانت خطبته في ذروة التحريض الثوري على الأحزاب الدينية كافة، وأول مرة تُذكر الأحزاب والجماعات بالأسماء، بينما جرت العادة أن يُشير الخطباء لها من خلال عموميات. حمّل الحسيني منظمة “بدر” و”سائرون” و”دولة القانون” و”الحكمة” مسؤولية تردي الأوضاع، قائلاً: لا أستثني أحداً. غير أن الأخبار وردت بعزل هذا الخطيب عن منبر الجمعة، وعلى ما يبدو أنه من التيار الصدري، تبيّن ذلك من قوله “أخاف تقولون أنتم بالحكومة أيضاً”، وأتى على اسم “الأحرار” و”سائرون”. و”الأحرار” هي الكتلة النيابية الصدرية في البرلمان، بينما “سائرون” هي التكتل الانتخابي العام للتيار الصدري وجماعات أخرى، ومن بينها الحزب الشيوعي العراقي. غير أن ما يلفت النظر، في تظاهرات بغداد والمحافظات التشرينيّة، أنها كانت خالية في معظمها مِن أصحاب العمائم، فلا تجد أثراً، إلا ما ندر، لوجود معتمر عِمامة في الساحات، التي غلب عليها الشباب من مواليد منتصف ونهاية التسعينات وبداية 2003. لكن ما يستشف من خطب ورسائل الفقهاء إلى المتظاهرين، والتأييد غير المشروط لهم، وشجب القنص الذي طال أكثر من مئة وخمسين متظاهراً شاباً، أن نهضة عراقية بدأت بعد سبات فرضته الحالة الطائفية، والملاحظ أن التغيير ليس لدى الشباب إنما لدى الخطباء والفقهاء، من غير السياسيين بطبيعة الحال. هذا، ولا يهم أن تكون مشاركة المتظاهرين من المكاتب ومنابر الجمعة، وليس لنا اعتباره “أضعف الإيمان”.
مشاركة :