سأذهب مباشرة إلى كشف بعض ما جرى في ذلك العدوان الغادر على مصر عام 1956 وبالتحديد يوم 29 أكتوبر، فالدول الغربية مازالت تذكر بدقة تفاصيل أيام العدوان الثلاثي على مصر والذي شاركت فيه كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، والذي ترتب على هذا العدوان تفجير أنابيب البترول في أكثر من بلد عربي احتجاجا عليه وتضامنا مع الشقيقة مصر، نظرا إلى انحياز الشعوب العربية إلى مصر تحت قيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، في حينها لم يكن هناك لوم على بعض الحكومات العربية لأنها كانت تحت سيطرة الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي. ولكن المد القومي كان أقوى بكثير من جبروت الاستعمار؛ إذ استمرت تلك الدول الثلاث بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في عدوانها فقامت القاذفات البريطانية والفرنسية بقصف قنابلها على إذاعة «صوت العرب»، وكان الهدف من ذلك إسكات جهاز الاتصال الاستراتيجي لمصر مع العرب، حينها صاح المناضل الإذاعي أحمد سعيد بعبارة واحدة قالها: «لقد ضربت قاهرتكم» فإذا بإذاعتي دمشق وعمان بأصوات مذيعيها وبصوت عالٍ يقولان: «هنا القاهرة من دمشق وصوت العرب من عمان»، فكل هذا يؤكد فكرة التضامن العربي آنذاك، وهذا ليس مستبعدا الآن وسوف يعود أقوى مما كان لأنه أولا وأخيرا سيظل مدا قوميا نابعا من القلب والسواعد العربية والتضامن الحقيقي. وعندما تضامنت الدول العربية مع مصر إبان العدوان وكذلك الدول المحبة للسلام وكرامة الإنسان كان يحدوهم أمر واحد هو الحرية والسلام والمحافظة على مكتسبات المواطن، وكان جمال عبدالناصر يدرك أن التضامن العربي لم يكن في يوم من الأيام مجرد كلمات فقد كان هذا الزعيم قائدا عظيما ووطنيا مخلصا قويا وكان صاحب قرار وصاحب إرادة، وهناك أمران يؤكدان ذلك من دون جدال، الأول: عندما قرر عبدالناصر الذهاب إلى الجامع الأزهر أثناء العدوان الثلاثي يحدوه في ذلك أن يسمع من الشعب المصري العربي رأيه فيه فكان خطابه هناك بمثابة الضربة القاصمة للعدوان الثلاثي، فرغم التآمر الاستعماري بقي عبدالناصر وانتصرت مصر ودُحر العدوان، أما الأمر الثاني فكان يومي 9 و10 يونيو 1967 عندما أعلن عبدالناصر أنه يتحمل كامل المسؤولية وأعلن التنحي جراء ما حدث من عدوان إسرائيلي وقوى الاستعمار يوم 5 يونيو1967 ثم عاد عن قراره نزولا عند رغبة وطلب شعب مصر العربي والشعوب العربية التي خرجت ترفض قرار التنحي خلال يومين عصيبين في حياة الأمة العربية. لقد كتب عبدالناصر بقلمه تحت عنوان «انتهى الغزاة وبقيت مصر» قائلا: «إن مصر كانت دائما مقبرة للغزاة وأن جميع الإمبراطوريات التي قامت على مر الزمن انتهت وتلاشت بعد أن اعتدت على مصر ولكن مصر باقية متماسكة متحدة متكافئة» واستطرد ناصر قائلا «إن الحياة الذليلة هي العبودية.. وإن الموت خير من الذل لقد أعلنت مصر أن سياستها الحرة المستقلة تنبع منها وصممت أن تسير في هذه السياسة وكان ذلك لهدف أكبر هو إقامة حياة تسودها الرفاهية لجميع أبناء الوطن، ولكن هل تركنا الاستعمار نعمل من أجل هذا الهدف الكبير؟! لقد كان الاستعمار واقفا لنا بالمرصاد كان الاستعمار يريد منا أن نكون أذلاء تابعين.. نحيا حياة جُرِّدت من الشرف ومن الكرامة والحرية». واختتم عبد الناصر كلمته قائلا: «إن وطننا استمر على مر الزمن يكافح كفاحا مريرا في سبيل تحقيق الحرية والاستقلال والسلام، إن آباءنا استشهدوا في سبيل هذه الأهداف وإن الاستعمار كان يتربص بنا ويتحكم فينا فهل سلمنا؟ إننا لم نسلم أبدا لقد مات منا الأجداد والآباء والأبناء في سنة 1882 وسنة 1919 وسنة 1936 على مر السنين يموت المصريون في سبيل الهدف الأكبر وهو تحقيق الحرية والاستقلال، إننا اليوم نخرج من هذه المحنة أقوى عزما وأشد قوة وأعظم أملا وإن تاريخ الشعوب في الكفاح هو الذي يكتب له المستقبل؛ فإن الأيام العصبية امتحان في الصبر والثقة والثبات والإيمان، حقاً لقد كان العدوان على مصر وصمة عار وجنون من أولئك القادة من المستعمرين ظنا منهم أن القوة والجبروت يمكن أن تسكت الشعوب ولو كان ذلك كذلك لما قامت الثورات في لبنان والعراق وليبيا والجزائر». وبفضل القومية العربية التي تبناها عبدالناصر تحررت كل الدول العربية والإفريقية عدا فلسطين التي سيأتي يوم وينجلي فيه ظلام الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي. وللتاريخ نذكر هنا بعض ما قاله زعماء العالم جراء العدوان الثلاثي على مصر: الملك سعود: حيث دوى صوته كالرعد العاصف قائلا: «لبيك لبيك يا مصر: فنحن عند حسن الظن». أما رجل السلام جواهر لال نهرو رئيس حكومة الهند فقال إنه: «يضع كل نفوذه وبلاغته وجرأته في كفة الميزان لصالح ناحية مصر» أما الملك حسين فقد بادرت المملكة الأردنية الهاشمية بقطع علاقتها مع المعتدين.. وعبأت جيشها ودعمت مراكز الحدود وفتحت أبواب الأردن للجيوش السعودية والعراقية والسورية. أمَّا همرشولد أمين عام الأمم المتحدة آنذاك فقد هاله ما أقدمت عليه إنجلترا وفرنسا وإسرائيل من عدوان أثيم على مصر فبذل مساعيه وجهوده لجعل هيئة الأمم المتحدة تضع حدا لذلك العدوان، أما الزعيم السوفيتي بولجانين سجل بوقفته إلى جانب مصر صفحة مشرفة رائعة في تاريخ الاتحاد السوفيتي وعلاقاته بالشرق العربي كما كان هناك من زعماء العالم الذين استنكروا العدوان على مصر: من بينهم الرئيس الأمريكي إيزيهاور والدكتور تاندريك رئيس وزراء سيلان وعبدالله خليل رئيس الحكومة السودانية والملك فيصل ملك العراق والإمام أحمد عاهل اليمن والدكتور سوكارنو رئيس جمهورية إندونيسيا والملك إدريس السنوسي ملك ليبيا وكميل شمعون رئيس الجمهورية اللبنانية وشواين لاي رئيس وزراء الصين كل هؤلاء وقفوا إلى جانب مصر لأن مواقفها كانت تعبر عن الحق والمصداقية في الحفاظ على منشآتها ومنها على وجه التحديد قرار تأميم قناة السويس في ميدان المنشية بخطاب الزعيم الخالد جمال عبدالناصر الذي لم يفعل شيئا سوى أنه أعاد الحق إلى أصحابه شعب مصر العربي وأبرز كرامة الإنسان العربي. وأخيرا وليس آخرا هذه تواريخ الأيام العشرة المثيرة في تاريخ مصر وباختصار: 28 أكتوبر 56، إسرائيل تعلن التعبئة وأمريكا وبريطانيا وفرنسا تسحب رعاياها من مصر 29 أكتوبر 56: إسرائيل تهاجم حدود مصر وتحتل نقطة (الكونتيللا) 30 أكتوبر 56، مصر تعلن التعبئة العامة وسلاحها الجوي يهاجم جنوب إسرائيل المهاجمة 31 أكتوبر 56 مجلس الأمن يجتمع الساعة السادسة صباحا، بريطانيا وفرنسا تستعملان الفيتو لإيقاف قرار وقف إطلاق النار، همرشولد يقدم استقالته احتجاجا على الدول التي تخالف الميثاق، 1 نوفمبر 56 جمال عبدالناصر يكشف التآمر البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر ويقطع علاقة مصر الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا، 2 نوفمبر 56 الجمعية العامة للأمم المتحدة تصدر قرارا بأغلبية 65 دولة بوقف إطلاق النار فورا وانسحاب قوات العدوان من أرض مصر، 3 نوفمبر 56 غارات مستمرة على مدن مصرية تعمل ضدها مدافعنا المضادة، 4 نوفمبر 56 حاول العدو النزول في السويس ولكنه رد وأغرقت مدمرتان وناقلة وأغرقت طرادة فرنسية شمال البرلس، 5 نوفمبر 56 غارات جوية متواصلة على مدن مصر ومركزة على بور سعيد، 6 نوفمبر 56 دارت معارك عنيفة في شوارع بورسعيد وأعلن ايدن في مجلس العموم البريطاني وقف إطلاق النار، في مصر في الساعة الثانية صباح يوم 7 نوفمبر 56 همرشولد يرسل إنذارا إلى إسرائيل بسحب قواتها من مصر وبن جوريون يعلن في الكنيست أن جيشه لم يستطع أن يحقق أي نصر أمام جيش مصر، هيئة الأمم المتحدة تؤكد قرارها الصادر في 2 نوفمبر 56 بوقف إطلاق النار وسحب القوات المعتدية فورا من مصر. حقاً لقد كانت 10 أيام مجيدة آليت على نفسي أن أذكرها ليعرف الجيل الحاضر وجيل المستقبل عن أساليب الاستعمار وكيف كان يعمل ضد أمتنا بسلاحه وقواته، واليوم مازال يتدخل بأساليب أخرى وابتسامة صفراء.
مشاركة :