يعتمد الفيلم القصير “الحبل السري”، على لغة الرمز، التي تعدّ أحد أهم حوامل الفن السينمائي، وذلك من خلال اعتماد مخرجه السوري الليث حجو في تكوينه وبنيته على إيصال فكرة ما من مرسل إلى ذهن المتقبل عبر منظومة متسقة من الدلالات والإشارات البصرية التي تتناغم معها تنويعات وإضافات صوتية بشكل محدد، يتغير ويتطوّر وضعها مع ثقافة المخرج وموهبته وفهمه لحقيقة الفن الذي يتعامل معه. هكذا قدّم الليث حجو المخرج التلفزيوني الشهير بمعية الكاتب الشاب رامي كوسا تجربتهما الأحدث “الحبل السري”. حيث يقتحم الفيلم عالم المرأة، للبحث عن بعض الظروف القاسية التي عاشتها في زمن حرب ضارية، دمرت البشر والحجر بعيدا عن مجالات السياسة وتشعّباتها. وليد وندى، زوجان سوريان ينتميان إلى شريحة ما، في مكان ما، لكنهما ينتميان بالتحديد إلى زمن الحرب، الذي وضعهما على أبواب مصير مفجع. الزوجان يعيشان في منطقة تماس عسكري. وهما مع قلة من الناس التي ما زالت تعيش في حي شبه مهدم، وهناك قناص، مجهول الانتماء في الفيلم، لا يسمح لأحد بالحركة ضمن هذا الخراب. يبدأ الفيلم بلقطات تصوّر حطام الحياة العادية التي تعيشها هذه الأسرة، فالرجل يجفّف بعض أوراق التبغ في شباك بيته، ثم يفتّت إحداها ويلتقط قطعة ورق من بقايا دفتر هواتف ليجعل منهما لفافة تبغ، يشعلها، ثم لا يلبث أن يسعل بشدة بعد أول عملية سحب منها. لتلاحق الكاميرا الزوجة وهي تغسل وجهها أمام مغسلة يتقاطر الماء فيها من أنبوب “سيروم طبي” موصول بعبوة بلاستيكية، تنظر في المرآة لتقرّر قصّ شعرها كي تتفادى غسله بالماء لكونه غير متوفّر. الليث حجو يعتمد في تجربته السينمائية الروائية الأولى على الرموز والإشارات البصرية، ليروي ملحمة إنسانية يحمل سيناريو الفيلم منعرجا ينقل الحدث نحو مساحة مفترضة مليئة بالحيوية. فجأة يخبر جار الشاب بأنه تحصل على خبز وسيرسل له رغيفا، يصعد وليد إلى الطابق الأعلى لنشاهد الجار وقد ربط الرغيف على حبل مركّب على عجلتين بحيث يمكن بسحب الحبل أن يتحرك إلى الطرف الآخر. وهذا ما يكون، وبالطبع فعين القناص التي لا تسمح بأي حركة تجري، تشاهد الرغيف وهو يتحرّك من جهة إلى أخرى، فيسدّد القناص نحوه ويطلق النار فيثقب الرغيف، لكن هذا لا يمنعه من الوصول إلى وليد الذي يتعامل معه فورا ويجهّز به رغم كونه مثقوبا وجبة طعام لزوجته وجنينها. في المشهد سوريالية ومشهدية تحمل روح التحدي، وترمز إلى كون هذا الأمر وكأنه الحبل السري الذي يحافظ على حياة هؤلاء، فرغم الحصار والرغبة في القتل التي يريدها هذا القناص فإن الحبل السري الذي أوجده الناس قادر على إعطاء المزيد من الأمل في الحياة. ويحمل السيناريو المحبوك معاني أهم ممّا سبق، إذ يُشكّل حالة تشويق مثالية. وذلك عندما تبدأ آلام الولادة عند ندى وسط حالة الارتباك الشديدة التي تطال الزوج، لكونها جاءت قبل موعدها بشهر، فالقابلة في الطرف الآخر بحيث لا تستطيع أن تأتي ولا يستطيع هو أن يذهب بها إليها لأن القناص لا يسمح بذلك. وتحت ضغط آلام الوضع التي تطلقها الزوجة، وخطورة اللحظة يقرّر الزوج الطلب من القناص السماح لهما بالمغادرة، لكن إجابة القناص تكون بإطلاق الرصاص عليه، فيعود مستسلما لمأساته. وتحت رعب الخطر ونظرات جيرانه الذين يبعدون عنه أمتارا وأخطارا. وعلى بعد خطوات تدلّه القابلة على كيفية إجراء الولادة. وتنجو المرأة وتلد بنتا تسمى نور، وفي هذا الاسم دلالة، فعسى أن يكون المستقبل نورا بعد هذا الزمن المليء بالظلمة. ربما كان من المفترض تقليديا أن تنتهي قصة الفيلم عند هذه النهاية السعيدة، لكن روحا متهكمة عند كاتب السيناريو ومخرجه، تجعل النهاية في فضاء آخر قلّ نظيره في السينما العربية. ببساطة يقرّر الزوج متابعة إصلاح سيارته، ويفعل ذلك، فيحرّكها ويسدّ شباك السائق بقطعة ورق سميك بحيث يحجب الرؤية عن القناص، ويكتب شيئا على غطاء السيارة/ الشاحنة. ويتركها تتحرّك مُنفردة. تمرّ السيارة ويشاهدها القناص فيطلق النار على شباكها الذي لا يكون وليد وراءه، وعندما تتابع السيارة مرورها البطيء، تظهر العبارة التي كتبها الزوج للقناص، وهي شتيمة قاسية تقع عليه كالزلزال، فتستفزّه ويقوم بإطلاق وابل من الرصاص على السيارة، فيما تقوم الزوجة بإرسال كيس من البرتقال إلى جارتها في الضفة الأخرى “حلوان” (هدية) ولادتها وسلامة مولودتها. وتكون نهاية الفيلم على هذا المشهد الذي يرمز بذكاء إلى فكرته الأصلية، وهي صراع إرادة الحياة مع إرادة الموت القادم من فوهة بندقية القناص، ليقدّم المخرج حلا دراميا إبداعيا لا يخلو من التهكم. و”الحبل السري” فيلم من إنتاج الاتحاد الأوروبي، من تأليف رامي كوسا وإخراج الليث حجو، وتمثيل كلّ من: نانسي خوري، يزن الخليل، جمال العلي، ضحى الدبس وسناء سواح. رامي كوسا، كاتب السيناريو، يعي تماما كيف يخدم فكرته من خلال وضعها في سياقات درامية تصل إلى الجمهور بشكل مختلف، الأمر الذي اعتمده المخرج الليث حجو في كاميراه بعيدا عن البهرجة البصرية، وهو الذي اعتمد لغة بسيطة عادية تنقل تفاصيل حياة هذه الأسرة بكثير من الدقة والشفافية، فخلق من الفيلم ثيمة هادئة بإيقاع متوازن، وزّع فيها الذرى الدرامية على امتداد زمن الفيلم. ولعل أحلى ما في الفيلم هو امتداد حالة التشويق فيه إلى آخر لحظة، ففي اللقطة النهائية يمكن للمتابع أن يفهم تماما قصدية الحكاية. وعن السينما يقول مخرج الفيلم، الليث حجو، “السينما عالم مليء بالتكثيف والإمعان في التركيز للوصول بالمتلقي إلى مادة بصرية معبرة بوضوح دون الكثير من الحوار الفضفاض، في السينما شكل الطرح ومضمونه مختلفان تماما عن الدراما التلفزيونية”. وما يدل على امتلاكه وجهة نظر مختلفة عن اشتغاله التلفزيوني المُعتاد، استخدامه في تجربته السينمائية الروائية الأولى له أسلوبا خاصا في البنية السمعية، حيث أوجد الليث حجو مؤثرات صوتية كانت تتضافر مع اللحظات البصرية لتشكلا معا جملة فكرية واضحة المعالم والأهداف.
مشاركة :