تعد مسرحية “ماما”، التي شهدتها القاهرة أخيرا بعد عرضها في مهرجان أفينيون الفرنسي ومدن أوروبية، مغامرة فنية مثيرة للخيال والجدل، باتخاذها الممارسات العائلية ووضعيات النساء في أسرة برجوازية، مجالا لمناقشة مفاهيم الأبوية والسلطوية وقضايا معقّدة تمس جوهر المجتمع المصري المعاصر، في قالب كوميدي مسطّح مشحون بالتراجيديا. أطلق عرض “ماما” على مسرح الفلكي بوسط القاهرة، جملة من النسمات الجمالية في حقل الفن، على ما فيها من بساطة وخفة، ومجموعة من العواصف العاتية الثقيلة في ميدان النقد الاجتماعي الساخر، بهدف إبراز حالة العجز العام القائمة، ومحاولة تجاوزها بحلول فعلية، وليس بإهمالها وتجاهلها. جاءت مسرحية “ماما” تتمة لثلاثية درامية حول العائلة، بعد “في انتظار عمي اللي جاي من أميركا”، و”العشاء الأخير”، وهي من تأليف وإخراج أحمد العطار، الحائز مؤخرا على “وسام فارس” في الفنون والآداب من وزارة الثقافة الفرنسية، وديكور وأزياء حسين بيضون، وموسيقى حسن خان، وإضاءة تشارلي أستروم، وأداء علي السبع، بلال مصطفى، داليا رمزي، هدير مصطفى، هبة رفعت، منة التوني، وآخرين، ومن إنتاج مصري مشترك مع مهرجان أفينيون الفرنسي. مثل إشارة عنوانها الدال، اتخذت المسرحية من المرأة رمزا لاحتمالات حدوث حراك مجتمعي، فهكذا العهد بالأمومة الخلاقة الملهِمة، المفجّرة والمسيطرة، على الرغم مما يبدو على سطح المشهد من ذكورية وأبوية، فللأنثى بعلاقاتها المتشعبة المبنية على العاطفة والحساسية الفائقة قدرات خارقة استثنائية في مسار التغيير المجتمعي المأمول في مصر والعالم العربي. خارطة الوطن رسم العرض خارطة للوطن الكبير وللمجتمع بكامله من خلال أسرة برجوازية محدودة الأفراد متعددة العلاقات والضيوف والمعاملات مع طبقات المجتمع المختلفة، وعلى رأس الأسرة شخصية الجدّة المحورية (ماما) كممثلة للجيل الأول، ومن نسلها تفريعات نسوية مركزية أيضا، الابنة، والحفيدة المدللة زينب (زيزي). تسلل العرض برشاقة من خلال تفاصيل مجانية اعتيادية لممارسات الحياة اليومية، والمشاجرات والصراعات الأسرية، إلى خبايا مجتمع سيدات القصور ورجال الأعمال الجدد، من أصحاب الصفقات التجارية وأشغال الاستيراد والتصدير، فالرجال لا أمل في تغيير سلوكياتهم وأنماط أفعالهم لانشغالهم التام بلغة البيزنس والأرقام، إلى درجة إهمالهم شؤون بيوتهم وأبنائهم وبناتهم، وهذا مؤشر الجمود في العرض، حيث الذكورية القائمة على التحكم الظاهري الأجوف، والسلطوية الفارغة، والأبوية التي لم يبق منها سوى الزعيق وإصدار أوامر لا يتم تنفيذها في أغلب الأحوال. على النقيض، فالحراك والتصعيد الدرامي وأبجديات التغيير النابتة في التربة البور، مقرونة بالضرورة بالأنثى، سواء شخصية الجدة الواقفة موقف الند من جد الأولاد، والمصرّفة للوازم المعيشة، والمدبرة لأمور الأبناء والأحفاد، وشخصية الأمّ المنتقدة لتصرفات زوجها وانصرافه عن هموم بيته ومشكلات أولاده، وشخصية الحفيدة، المعبرة عن النقلات الأكثر شراسة في النسق العائلي كصورة للمجتمع المتفكك. شخصيات نسوية كثيرة، حفل بها العرض، بأيديها دائما الإدارة والقرار ولعب دور محوري، وإشعال شرارة التمرد والتثوير، بغض النظر عن مركزها، بدءا من أعلى رأس (الجدة)، وصولا إلى الخادمة، الأنثى اللعوب، فاكهة الفيلا الجاذبة للعيون على الدوام. هذه الحلقات النسوية، كشفت اهتمامات سيدات المجتمع الجديد الراقي بكل ما هو شكلاني واستعراضي، على حساب الجوهر والقيم الفعلية، فالتدين ترديد عبارات وليس سلوكيات ومعاملات، والخير مباهاة معلنة بإقامة موائد الرحمن لإطعام الفقراء في رمضان بأعداد كبيرة، والمضايفة افتخار بتقديم حلوى فاخرة من دبي وقهو²ة ممتازة من اليمن، وقضاء وقت الفراغ انكباب من الكبيرات على الأندية والمصايف والتسوق وتغيير ديكورات الفيلا، ومن الصغيرات على الموبايل والسوشيال ميديا وحفلات الرقص والموسيقى والصخب وممارسة الرياضات العنيفة “الملاكمة”. هذا العالم الهش، المتحلل، المليء بالآراء المتعارضة والصراعات، الذي أدى إلى تجرؤ الحفيدة على أبيها وأمها وجدتها وضربها بتوجيهاتهم عرض الحائط وسلوكها مسلكا مريبا في تصرفاتها اليومية دون رادع، استطاع أن يخترقه بسهولة “مدحت” سائق الزوج “كريم”، ليعلب بعواطف ثلاث نساء في الأسرة دفعة واحدة؛ الابنة “أسماء”، والخادمة “نجوى”، ثم الحفيدة “زيزي”، ذات السبعة عشر عاما. عندما جرى اكتشاف هذا الحدث الجلل، بوشاية من الخادمة الموتورة التي ضبطت السائق والحفيدة في وضع مخلّ، تغيرت الموازين، وانقلبت الأمور، وتدخّل الرجال أخيرا، كل واحد بطريقته، فالجد انتقم من السائق بتلفيق تهمة سرقة له، والأب التفت إلى زوجته وأبنائه بعد طول إهمال، وجرى الاتفاق على تزويج الحفيدة من أحد الأقارب، وبدأت أمور كثيرة تعتدل أو تنقلب إلى النقيض، منها مثلا ارتداء الحفيدة “الحجاب” بدلا من الملابس المفرطة في السفور والتعري في بداية العرض. رهانات السطح اتكأ العرض في مجمله على السرد الأفقي للمواقف العابرة، وليس على تنامي الأحداث وتعقُّد الصراعات رأسيّا، وقاد الرهان على قالب الكوميديا السوداء بما فيه من سخرية ومبالغة وتضخيم إلى ظهور العرض كمجموعة من المفارقات الكاريكاتيرية المسطّحة، أكثر منه بناء متماسكا قائما على رسم شخصيات مسرحية عميقة ومنظومة علاقات راسخة. وعى العرض مفردات تفوّقه جيدا، فهو ليس مقصودا به الضخامة والاكتمال، بقدر ما أنه معنيُّ بالشذرات الجزئية والتقاط كادرات صغيرة لتشوهات المجتمع من خلال تصوير ملامح النقصان والقصور لدى أفراد الأسرة، كل واحد على حدة. وتمحورت الجماليات حول سرد التفاصيل كغاية ومتعة بحد ذاتها، فالمشاهد شيّقة سارقة للحواس، والحوار مختزل مكثف، والضحكات نابعة من المواقف، وأداء الممثلين طبيعي تلقائي حدّ الإدهاش، بالإضافة إلى انسجام عناصر المسرحة من ديكور وملابس وموسيقى وإضاءة مع بساطة النص، مناقشات ومناوشات عائلية في غرفة المعيشة المرفهة. ربما كانت مفارقة أيضا، تضاف إلى مفارقات العرض، أن هذا الرهان على التبسيط الذي قد يمكن وصفه بالإخلال بالتركيبة المسرحية الدسمة أو المنضبطة، قد يكون فلسفة للعرض، وتوجها مقصودا مع سبق الإصرار، فالمسرحية الحافلة بشخصيات الضحايا هدفها الأول التفاعل والمشاركة من جانب الجمهور المأزوم، وحثه على الانخراط في أزمات الأسرة بمعايشتها، وهذا قد يكون كافيا لتوليد رغبة ما في التجديد والتغيير والابتكار وإعادة قراءة الواقع بطريقة مختلفة، والتمرد على جمود التقاليد البالية.
مشاركة :