الطفولة القاسية تؤثر في بناء الشخصية: قوية أو غير سوية

  • 10/30/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

من دون شك، يعاني بعض الأطفال في سنوات حياتهم المبكرة من سوء معاملة؛ عنف منزلي، إهمال، إضافة إلى مشاركتهم العيش مع والدين قد يعانيان من أمراض عقلية أو نفسية. هذه البيئة النفسية والاجتماعية العليلة يمكن أن تنتج أشخاصا غير أسوياء نفسيا، تتضاعف فرص إصابتهم بالقلق، الاكتئاب، الإدمان على الكحول والمخدرات، وربما تنتهي حياتهم بالانتحار. أما الجديد في الدراسات فيؤكد على أن الأمر قد يتجاوز الأمراض النفسية بكثير، ويتعداه إلى زيادة احتمالات معاناة هؤلاء الأطفال من أمراض القلب والسرطان وحتى آلام الظهر المزمنة التي تنتظرهم على أعتاب الشباب. تؤكد كارولين بورنشتاين؛ وهي كاتبة وطبيبة أطفال أميركية، أن بحوثا عدة وثقت هذه الحقائق، فالمعاناة المبكرة تؤدي إلى المزيد من الانتكاسات عند البلوغ، إذ أن نمو هؤلاء عاطفيا ونفسيا لا يرتقي إلى مستوى إمكاناتهم الكاملة حيث تتم إعاقته بتجارب مؤسفة وظروف قاهرة. وعلى وفق هذا السياق، يعاني البالغون الذين تعرضوا إلى ضغوط كبيرة في مرحلة الطفولة من بعض التشوش في طريقة تقييمهم للمواقف المهددة لوجودهم على اختلاف مستوياتها، فنراهم يبالغون في تقدير طبيعة الخطر ومداه، حيث المواقف التي تبدو عادية في نظر الآخرين هي ليست كذلك بالنسبة لهم، فهي إما أن تكون تهديدات متخيلة أو أشياء محايدة تفسر على أنها تهديدات، ويتسبب هذا الخلل المعرفي في إعاقة القدرة على تشكيل بعض الحيل الدفاعية التي يعتمد عليها النجاح المهني والاجتماعي وربما يفضي إلى نمو أطفال ومراهقين أكثر عرضة للتصرف بشكل متهور حتى لو لم يتم استفزازهم. الأطفال الذين خرجوا من بيئة تسودها ضغوط نفسية يمكن أن ينجحوا في تطوير ملكات تفكيرهم المنطقي ولكن دراسة أخرى لباحثين في جامعة رادبود في هولندا، أشارت إلى إمكانية قلب هذه النتائج أو تعديلها على الأقل؛ حيث أظهرت أن الأفراد الذين عانوا من طفولة فوضوية وغير مستقرة عززت من قدراتهم في ما بعد على استشعار مكامن التهديد وتذكر الأحداث المزعجة والتجارب السلبية، وفي ظل ظروف معينة، يمكن أن ينجح هؤلاء الأطفال الذين خرجوا من بيئة تسودها ضغوط نفسية في أن يطوروا من ملكات تفكيرهم المنطقي ويقيموا علاقاتاهم بالآخرين بصورة أكثر كفاءة من غيرهم، إذ يتحدث عنهم المتخصصون دائما بكونهم أصحاب نقاط قوة نفسية ستفصح عن نفسها يوما ما في مستقبل حياتهم. ويرى الباحثون الذين تابعوا هذا المسار أن الفكرة الأساسية تدور حول مفهوم بناء حياة الإنسان على وفق بيئة طفولته؛ حيث يميل أولئك الذين يكبرون في بيئات آمنة يمكن التنبؤ بأحداثها وظروفها مع موارد مالية كافية، إلى استخدام الاستراتيجيات البطيئة في مسار حياتهم، إذ يدرسون بجد، ويرجئون الزواج والإنجاب ويتبعون عموما النصائح التقليدية المقدمة لمعظم أطفال الطبقة المتوسطة حول كيفية البقاء في هذا المسار. في حين، يميل أولئك الذين يعانون من اضطرابات وتقلبات في ظروف حياتهم المبكرة إلى استخدام استراتيجيات سريعة؛ لأن يصبحوا آباء في وقت مبكر ويستعجلوا الحصول على مكافآت سريعة صغيرة وفورية بدلا من انتظار مكافآت أكبر وأكثر ثباتا في وقت لاحق من حياتهم، كما ينظر هؤلاء إلى مستقبلهم بثقة أقل. وفي سياق متصل، أثبتت الدراسات بأن الأطفال الذين تلقوا دعما عاطفيا ونفسيا من قبل ذويهم أو الحلقة الاجتماعية الضيقة التي أحاطتهم في فترة طفولتهم المبكرة، سجلوا أقل معدلات اكتئاب واعتلال نفسي في مرحلة البلوغ. وأظهرت دراسة حديثة بإشراف باحثين في جامعة جون هوبكنز الأميركية، أن العلاقات الإيجابية في مرحلة الطفولة يمكن أن تخفف من بعض الآثار الضارة للتجارب السلبية التي يمكن أن يمّر بها الطفل. وأشارت الدراسة التي نشرت نتائجها في مجلة “جاما” للطب النفسي، التي تشرف عليها الجمعية الطبية الأميركية، إلى أن الأشخاص الذين وجدوا فرصا أكثر في طفولتهم للتحدث مع واحد من أفراد العائلة على الأقل عن مشاعرهم أو مخاوفهم وتلقوا تشجيعا ودعما في المدرسة من قبل المعلمين والأصدقاء، وكانوا أكثر شعورا بالأمان والحماية سواء في المنزل أو خارجه وبالتالي نشأوا أفرادا أسوياء وأكثر قدرة على التعامل مع مشاكل الحياة وأكثر قدرة على اختراق الحواجز النفسية في ما يتعلق بعلاقاتهم مع الآخرين. ومن جانب آخر، يشير متخصصون إلى أن بعض تجارب الطفولة القاسية والمهارات التي يكتسبها الطفل للخلاص من ظروفه المضطربة، هي التي ستعينه بشكل جيد في حياته المستقبلية كشخص ناضج. ومع اختلاف التجارب وشدة قسوتها كالمعاناة من الفقر، الإساءة العلنية من قبل الأهل، الإهمال المستمر والرعاية الناقصة، فإن سنوات الطفولة المبكرة هي التي تنحت شخصية الطفل لينمو بعدها وهو يعاني من عاهة نفسية لا يمكنه الفكاك من تأثيراتها بسهولة، أو أنها تقوي عزيمته وتصقل مهاراته السلوكية والنفسية لينشأ فردا قوي الشكيمة بعد أن يطور من مهاراته في التعامل مع ضغوط البيئة الطفولية، حيث يعيد تدويرها فيستخدمها في الالتفاف على الضغوط المشابهة التي يواجهها في حياته المستقبلية، وقد لا يتردد أحدنا في القول بكل ثقة إن تجارب الطفولة القاسية أفادته في حياته بشكل أو بآخر.

مشاركة :