النظر في التفسير القرآني قضية تستدعي الحذر، وهو مسألة دقيقة تناولها العلماء فاختلفوا فيها؛ لأنها تقوم على البحث في طبيعة النص القرآني من حيث تميزه عن النصوص المقدسة المنزّلة، كما أنه نص أثبت إعجاز محمد، وعليه قام مفهوم النبوة في الإسلام، وعُدَّ مسألة من أمهات المسائل الدينية والمباحث الكلامية. في ضوء هذه الرؤية تهتم الباحثة التونسية المتخصصة في التفسير القرآني نائلة السليني الراضوي بمنهج المفسّر في قراءته للقرآن، وذلك في بحثها “تاريخية التفسير القرآني والعلاقات الاجتماعية” الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، انطلاقا من فرضية “أن عمل المفسر في القديم مزدوج الوظيفة، فهو يشتق عمله من البيئة الاجتماعية ومختلف المشاغل الطارئة عليها، وكان هو فيها من بين عناصرها النّشيطة في تشكّلها والتأثر بها”. وتضيف الراضوي “لا غرابة، إذا، أن تجد المتكلم مفسرا على نحو معين، وكذا الأصولي والفقيه، وجميعهم ينطق بما تحتاج إليه هيئة الاجتماع. وأضحت سلطة المفسر في المجتمعات الإسلامية عظيمة الشأن من خلال الأسباب التي تنتظم بها هيئة الاجتماع والأركان التي تقوم بها كالأسرة وانتظام الأفراد ومعاملاتهم الاقتصادية وعلاقاتهم بغيرهم من أهل الكتاب. في هذا الإطار العام يتنزل بحثنا، ولا نعنى بالمشاغل العامّة للمفسّر إلا ما لامس القضايا الاجتماعية ذات الأثر العميق في المجتمعات الإسلامية. إنما يقوم مشغلنا على تعقّب الأحكام الفقهية منذ نشأتها في النص القرآني، ومرافقتها في رحلتها الطويلة التي قطعتها في الفكر الإسلامي إن صح القول. ذلك هو موضوع التاريخية الذي نروم بيانه وتحليل الأغراض التي أسهمت في بنائه وتحريكه بكيفيات تضمن للأحكام أن تتلاءم في ما بينها، وأن تحفظ لكينونتها البقاء والتأقلم بحسب ألوان الأوضاع الاجتماعية في أجلى مظاهر تغيّرها”. وتوضح الباحثة التونسية أن التاريخية مبحث يقوم على مقوّمات الأصل التاريخي الذي اقتضى قيام حكم بعينه، وهي الخلفية التاريخية بجميع معطياتها الثقافية التي وجّهت ذهن المفسّر في تعامله مع الأحكام، وهي، أيضا، تلك المسافة الفاصلة بين أصل الحكم “كما نزل” والشكل “النهائي” الذي بلغه هذا الحكم. وهي مسافة تاريخية، إذ لا يمكن أن يتجلّى الحكم في تحوّله التاريخي في ظرف زمني قصير، وإنما هو خاضع في تغيّره لجملة هذه العوامل الثقافية التي تتميّز بحركتها البطيئة التابعة للطبائع والسلوكات الاجتماعية. ويقودنا هذا الرأي إلى النظر في منهج التفسير عامة والمقوّمات التي قام عليها “عمل التشريع” للأحكام خاصة؛ فالمفسّر بين هذا وذاك يسعى إلى التوفيق بين طرفين، بين المواضعات الاجتماعية القائمة على نسيج متحرك دوما، والنص القرآني، وقد عُدَّ حاملا لجميع الأحكام منها ما كان ومنها ما سيكون. والتاريخية هي نتاج ما يبلغه الفقيه من حكم، وهي الوسيلة الناقلة لهذا الحكم من سلف إلى خلف. تاريخية التفسير تشير إلى أن تاريخية التفسير تطرح إشكالية النص القرآني من عدة وجوه، من أدقّها تحوّل كلام الله من مرتبة القرآن، باعتباره معجزة النبي، إلى صحفٍ رتبها زيد بن ثابت في عهد أبي بكر، إلى مصحف جمع عليه عثمان أمّة المسلمين وأقصى كلّ قراءة مغايرة. ويتجلى أيضا، في وعي العالم بتلك المسافة الرقيقة المهمّة بين كلام الله القديم؛ لأنه جزء من صفاته المتعالية، وذاك الكلام المصرّف في لسان العرب. وقد يتجلّى أيضا في حرص المفسّر على بلورة عقيدة في التوحيد فينزع إلى التوفيق بين صفتي التعالي والقدم في كلام الله. وترى الراضوي أن قيام النص القرآني سلطةً في أمة المسلمين لم يحفظه من الخضوع لمسلكين في الفهم مختلفين. أثّر ذلك في جهة تقبّله وكيفية قراءته وتأويله، فتباينت طرق الفهم واختلفت لتقترن عند البعض بالتكفير، ونشأت الحاجة إلى توحيد فهمه بالاستناد إلى مؤسسة مرجع تمتلك شرعية الفهم الحقّ، لاسيما أن النص ذاته دعا إلى ذلك. ولا شك في أن مهمة هذه المؤسسة كانت عسيرة في البدايات. وترجع صعوبة قيام هذه المؤسسة بدورها إلى عاملين حكما المنظومة التفسيرية، العامل الأوّل تاريخي، فإلى جانب ما تركه انقطاع الوحي من تأثير في نفوس المسلمين كان لانتشار البعض من الصحابة في أطراف البلاد المفتوحة، دور في إنماء العلاقة بين المسلمين ونصّهم، وذلك عن طريق قراءة القرآن وإفهامه، وكان هؤلاء الصّحابة، على اختلاف مذاهبهم في الفهم، سند مؤسسة المفسرين التي ستنشأ في فترات لاحقة حيثما اقتضت الحاجة. أمّا العامل الثاني فيعود إلى طبيعة النّص ذاته، وهو مشغل نشأ مع هؤلاء الصّحابة، وبقي السؤال فيه قائما، والإجابة حوله تتكرّر، فقد دعا النّص ذاته إلى فهمه “كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبابِ”، وألحّ في السّؤال “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُها”. وشهد القرآن على طبيعة تكوينه، فهو “كِتابٌ مُبِينٌ”، فيه المحكم والمتشابه، “هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ”. واتسعت حدود تـأويله مع النص اتّساع بلاد الإسلام، وتعقّدت مسالك حواره، بتعقّد ثقافات الشعوب المفتوحة. وتعتبر الباحثة التونسية أن هذه المسائل مجتمعة تقتضي أن تتأسّس مؤسّسة جامعة وعالمة بالنص تستمد شرعية وجودها منه لإلزام الجموع بشروطها في التفسير، ولتبيّن أنّها المعنية في قوله “أهل الذّكر”، “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ”، ولتؤكّد أنّ القرآن قصدها في قوله “وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ”. فأمكن إقامة إطار يندرج فيه التفسير، وأخضع التعامل مع النّص بحسب درجات عُنِي الرّازي بتفصيلها في قوله “بحور العلم عند الله، فأعطى الرسل منها أودية، ثمّ أعطت الرّسل من أوديتهم أنهارا إلى العلماء، ثمّ أعطت العلماء إلى العامّة جداول صغيرة على قدر طاقتهم، ثمّ أجرت العامة سواقي إلى أهليهم بقدر طاقتهم”. فتيسّر لمؤسّسة التفسير أن تملك زمام الأمور باعتماد منهج يقلّص حدود فهم النص ويحفظ طابعه المفارق من فعل التاريخ. التلازم المستمرّ بين مشاغل الدنيا وهموم الآخرة، فقد هيمنت هذه المسلّمة على التفسير، وتلبّس مفهوم الحكم الفقهي بالعبادة، وكانت لهذه الرؤية انعكاسها على طبيعة العلاقات الاجتماعية وتلفت الراضوي إلى أن فهم النص يتعلق بحال المفسر وانشغالاته وظروف زمانه، ومدى استفادته من عبارات القدامى، ولكن في عمله التاريخي هذا مشاكل جمّة ننبّه إلى السّائد منها والمؤثّر تأثيرا عضويا، ومن ذلك؛ أولا تمثّل المفسّر لفترة الوحي باستحضار كل الروايات التي تذكي في نفس المؤمن الإيمان بحقيقة رسالة محمّد وتبعث فيه الشوق إلى استشراف الآخرة. وكانت هذه الأحاديث ملاذ المفسّر من هيمنة التاريخ. ومن هذه الروايات كيفية استحضار المفسّر لشخصية الرسول بالجمع بين ما اشتهر عنه وما توهّم أنه قد كان. فامتزج التاريخي بالأسطوري في رواية الوحي وفي تصوير شخصية الرسول؛ ولا يخفى مدى تأثير هذه الروايات في عمل التشريع. ثانيا المنهج الانتقائي الذي يحكم عمل المفسر بحسب انتمائه المذهبي، وهو منهج نحا إلى القطع في بعض وجوه الخبر الشّارح للآيات قطعا يتوهّم أنه يقيني وإغفال ما دونه. ثالثا إلزام الخلف ببيان السّلف وبأحكامهم التي اقتضتها أعرافهم وأحوالهم العمرانية. رابعا التلازم المستمرّ بين مشاغل الدنيا وهموم الآخرة، فقد هيمنت هذه المسلّمة على التفسير، وتلبّس مفهوم الحكم الفقهي بالعبادة، وكانت لهذه الرؤية انعكاسها على طبيعة العلاقات الاجتماعية. وتؤكد أن مقالات التفسير هي نص مشترك وموضوع محاولة فهم القرآن والاجتماع معا. ومن فهم القرآن تنقية العقيدة وبلورة تصوّر للتوحيد، ومن فهم الاجتماع استخلاص رؤية للكون والتاريخ. لذلك تكون مذاهب المفسّرين تأويلات بأدلّة ثقافية ومراجع يأخذ بعضها بأعناق بعض، وعلينا أن لا نغترّ بتراكمها الظاهر لأنها تحمل في كيانها النصي الإشارة إلى حياتها. ثمّ إن طبيعة النص القرآني وتفاسيره غير طبيعة نصوص التوراة والإنجيل؛ لأن النص القرآني في نظر الأصوليين أصل عقيدة المسلمين وكلام الله المعجز والدلالة على نبوّة محمد. فالتاريخية مرتسمة في تنظير الأصوليين للظاهر مرادفا للمفهوم، ومقابلا للنص، كما هي حاضرة في تفصيل الأصوليين لمقاصد الخطاب وطرق التأويل؛ وهي ذلك الحبل الواصل بين الخبر الناشئ أصلا وأخلافه، وهي أيضا الجرح والتعديل، وهي الواصلة بين الحكم الفقهي ومرجعه الثقافي وسؤال العمران المتحوّل. مقالات التفسير تقول الراضوي إن “الظّاهر، من خلال حجج المفسّرين، أنّهم التزموا في الاستدلال على حجّية تأويلاتهم بالأخبار عن الرّسول في تفسير آية تعذّر على الصّحابة فهمها أو في رواية مواقف عبّر بها بعض الصحابة عن تأويلاتهم، وقد سكت عنها الرّسول. ولعلّ أجلى مظاهر الاستناد كان في اعتماد فهوم عمر بن الخطاب لمختلف الآيات. وتجاوز بيان الرّسول نفسه؛ بل أوقفنا البحث على جملة من الأحكام أقرّها عمر ولم ينزل فيها نصّ، وعلى الرغم من ذلك تم تأويلها على أنّ القرائن عليها كامنة في ثنايا النّص المنزّل، واهتدى إليها عمر أو غيره من الصحابة بفضل تميّزه في العلم. اقتضى هذا من اللاحق تقديس العهد النّبويّ وإرسائه مرجعا أصلا في البحث عن حجّية الحكم أو البحث عن الدليل عليه. فكان استمرار الحضور النّبوي، وحضور أصل العصمة في الإنجاز الاجتماعي، واختزلت الفترة النبويّة والرّاشدة مفهوم الأسوة المترسّبة في الضّمير الاجتماعيّ والصورة المثلى العالقة بالذّاكرة الجماعيّة، فكان المفسّر في البحث عن الحكم يجول في ‘فضاء حنينيّ’ يلتمس الأمان من خلال إشارة عابرة في حديث مأثور وإن كان مقطوعاً أو شاذّاً”. وتضيف الباحثة التونسية بأن التاريخ سلسلة من الأحداث تتدرّج ضمن نظام مخصوص وتتفاعل بمنطق دقيق متجذّر في هاجس الحاضر بعوائقه الاقتصادية والعقدية. لذلك كانت الصّلة بين الاجتماعي والنّص الديني قلقة ومحرجة؛ لأن المفسّر أنكر المسافة الفاصلة بين النص المقدّس والعقل المتلبّس بشتّى الخصوصيات العمرانية، وكان هو نفسه، باعتباره فردا متجذّرا في هاجسه العمراني، قد تلبّس بخصوصياته الثقافية التي هي نظام دقيق، فلم يقدر العمل التأويلي أن يقارب النص المقدّس إلا به. ومع ذلك ظلّ النص في وهم النصيين ثابتا لا يختلف فيه اثنان. وإلا ماذا يعني قياس اللاحق على السابق؟ وماذا يعني استحضار السلطة لمرجعية ليس لها من فضل سوى قربها من فترة النبوّة كالعهد الرّاشدي؟ وتخلص في ختام مقاربتها إلى أنه “نهض منذ بداية هذا القرن من رجال الفكر المحدثين كثيرون، وذلك لأجل تخليص النص القرآني ممّا اختلط به من مسلّمات أسهم في ترسيخها المفسّرون والفقهاء عبر العصور، وحجبوه عن النّظر والتقليب”. وتذكر الباحثة بالخصوص محمّد الطاهر الحدّاد، “الذي حاول تقديم مشروع تحديثي للأحكام المتّصلة بالأحوال الشخصيّة، وأدرك أنّها أحكام وقفت دون مساهمة المرأة في الحياة الاجتماعيّة، ولا يفوتنا التنبيه إلى مقاربة عبدالعزيز الثعالبي للنص القرآني ودعوته إلى الالتزام بقراءته من غير الاستئناس بمفهوم القدامى وتأويلاتهم التي حجبت المعاني الثاوية في آياته، وقدّم رؤية تأويليّة لنماذج من المعاني القرآنيّة، فاستخرج منها مشروع تأويل جديد يخرج بالأحكام الفقهيّة من صلابة التشريع إلى لين المعاملة بين الأفراد في المجتمعات مهما اختلفوا في العقيدة. وها نحن في القرن الـ21 ولا نزال نبحث عن طريق للخروج من هيمنة هذه المسلّمات التاريخيّة في التعامل مع النصّ الملزم بأحكامه”.
مشاركة :