"أغاني المهرجانات" بين منطق الحرية ورفض الوصاية

  • 10/31/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

اكتسب الصراع بين نقابة الموسيقيين في مصر وفرق المهرجانات الشعبية أبعادا تتعدّى كثيرا النزاع المشتعل حول رفض اعتماد هذا الفن رسميا، لتمثل صراعا بين أجيال تحاول الحفاظ على تقاليد راسخة لمقومات صناعة الغناء، وشباب يتمرّدون على المتوارث عبر برامج إلكترونية لتعديل الصوت وتعطي إيقاعا سريعا صاخبا. وأدى قرار نقابة الموسيقيين بمنع 16 من مطربي المهرجانات من إحياء الحفلات إلى أزمة حادة، ودخول قطاع شبابي نقل القضية إلى أبعاد تتعلق برفض الوصاية على الجمهور تحت مسمى حفظ الذوق العام والتجني على حقه في اختيار ما يسمع. وتحافظ حفلات المهرجانات على طقوس شبه ثابتة من مغنين يحملون أسماء غريبة مثل: قدورة، الشاكوش، حمو بيكا، حتحوت، حلبسة والبط، يتحركون على مسرح وخلفهم مجموعة من الراقصين بشعر طويل غير مهذّب وجهاز لتكبير الصوت ومقاطع تتخللها إشادات شعبية. ومؤخرا في حفل زفاف بمنطقة شبرا الخيمة، بشمال القاهرة، انتظم المئات من الشباب أمام منضدات مستديرة تتراص عليها زجاجات من البيرة وسجائر محشوة بالبانغو المخدر، انتظارا لقدوم المغني الشعبي حمو بيكا، وبعد لحظات من الغناء تخلى الحاضرون عن القطع العلوية من ملابسهم، ونشطت خمس راقصات ممتلئات يبعن الإثارة على وقع موجات من الصخب لا تسمع في صداها غناء تخريب الذوق العام تعتبر نقابة الموسيقيين، برئاسة الفنان هاني شاكر، ما يقدّم في تلك الحفلات هو نوع من التخريب للذوق العام وعربدة على الأذن تحمل تأثيرا شبيها بالمخدرات، لكنها تعترف في الوقت ذاته بأنها لا تستطيع السيطرة على تمدّد هذه النوعية من الموسيقى التي تحضر في حفلات الشوارع. وتغذّت أغاني المهرجانات من الواقع الاجتماعي الذي يعيشه المصريون، فرغم ضعف أصوات المؤدين وافتقارهم لمعرفة فنون المقامات، لكنها تعبّر عن حال قطاعات عريضة من الجماهير الفقيرة، بقصص عن غدر الزمن وهموم الحياة والحقوق المسلوبة، مع مداعبة للغرائز المكبوتة. وحصدت هذه الأغاني أرضية واسعة مع تخلي الدولة عن دورها في حماية الذائقة العامة للجمهور بالتوقف عن الإنتاج الفني، ورفعت النخبة الثقافية الراية البيضاء أمام انحدار الواقع الفكري المجتمعي والاكتفاء بالتنظير، لتخترق معظم الطبقات وتشقّ طريقها بين سيارات وحفلات الأغنياء الفارهة ومركبات “التوك توك” وأفراح البسطاء. ويتلقى فنانو المهرجانات دعما رسميا مبطنا عبر استضافتهم في الجامعات والمؤسسات الحكومية، فحمو بيكا الذي رفضت نقابة الموسيقيين عضويته بالإجماع أخيرا، استقبله أطباء إدارة مستشفى 57357 لسرطان الأطفال مؤخرا بترحاب وبفاصل من أشهر أغانيه، وقبلها فتحت جامعة دمنهور بدلتا مصر أبوابها ليتراقص الطلاب على وقع أداء فنان لم يحصل إلّا على شهادة محو الأمية. ويحتكم جيل المهرجانات لحجم المشاهدات لموقع تبادل المقاطع المصوّرة “يوتيوب”، الذي حقّقت خلاله بعض الفرق مشاهدات تجاوزت 103 ملايين في ستة أشهر، مثل مهرجان “هاتلي فوديكا وجيفاز” (أحضر لي مشروبي فودكا وشيفاز)، بينما لم يتخط أفضل أعمال نقيب الموسيقيين هاني شاكر “لو بتحب” حاجز 10.5 مليون مشاهدة، رغم نشرها على الموقع قبل خمس سنوات. وتمترس النقابة التي تضم فنانين وملحنين تشكل وجدانهم الفني مع جيل عبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش، على أن الغناء معادلة كيميائية من صوت وموسيقى يتفاعلان مع أشعار غنائية تعتمد على عاطفة طاهرة وكلمات رصينة سهلة الحفظ والتذوّق، لتصل في النهاية إلى مضمون يهذّب النفوس. وظل الفنانون الكبار يغضّون الطرف كثيرا عن انتشار تلك الموسيقى حتى بدأ الأعضاء يعتبرون ما يقدّمونه هو الفن الصحيح ويطالبون باعتراف رسمي، ومهاجمة الهيئات المسؤولة عن الغناء الكلاسيكي التي تشكّك في قدرات الأداء أو التلحين، والتهديد بجلب أنصارهم إلى مقر نقابة الموسيقيين وهدمها فوق رؤوس مسؤوليها. الضجيج الأسود يقول أحمد رمضان، سكرتير عام نقابة الموسيقيين، لـ”العرب”، إن المهرجانات نوع من الضجيج الأسود المعتمد على تركيبات صوتية ميكانيكية تخدّر الجمهور، وارتبطت في المقام الأول بالعشوائيات وانتشار مركبات “التوك توك”، لكنها إلى زوال بمجرد انتهاء مسبباتها وبفضل جهود الدولة في الارتقاء بالحياة داخل المناطق الفقيرة. وربما، يقف التاريخ إلى جانب المهرجانات في إمكانية أن تجد لنفسها اعترافا شرعيا، فمطرب مثل أحمد عدوية تم رفضه من قبل لجنة الاستماع بالإذاعة المصرية، ونجح في النهاية بعدما أصبح أداؤه متقبّلا من الجمهور، وسعد الصغير تم رفضه كمغن وتم اعتماده كـ”مونولوجست”. ويحاول البعض منح المهرجانات جذورا تاريخية كتطور طبيعي للأغنية الشعبية الحديثة التي تواصل تصدّرها الوسط الغنائي المصري، وانتعشت في الثمانينات مع جيل من العائدين من الخارج ومعهم أجهزة فيديو كاسيت أنتجت صناعة لأغان سريعة الكتابة غير مفهومة الكلمات ارتبطت بأسماء فنانين، مثل محمد عدوية وكتكوت الأمير وحمدي بتشان. الأغاني الشعبية حصدت أرضية واسعة مع تخلي الدولة عن دورها في حماية الذائقة العامة للجمهور بالتوقف عن الإنتاج الفني ويؤكد رمضان، لـ”العرب”، أن المهرجانات فن لقيط ارتبط في بدايته بتسجيل صوت المزمار الشعبي ومعالجته مع أصوات المطربين في الأفراح الشعبية لجمع أموال النقوط وإطلاق اسم مهرجان على الحفل، ثم التقطها عاملون في حرف تقليدية، مثل القصابين ومساعدي السائقين، وطوّروها وأقحموا أنفسهم كفنانين، على عكس الأغاني الشعبية التي تتضمّن مطربا جيّد الصوت وفرقة موسيقية لأداء لحن طربي وكلمات معبّرة. ويصعب تصنيف موسيقى المهرجانات داخل إطار فني معين، فلا تعتمد على مؤلف موسيقي أو ملحن، وتعتمد على برنامج “أوتوتيون” ويقف وراءها موزعون أشهرهم “فيجو الدخلاوي” و”إسلام ساسو”، مع تلاعب بالأصوات، ومواراة لعيوب المؤدين الصوتية والمشكلات التي تواجههم في نطق بعض الحروف واللثغات التي يعاني البعض منها. ولا تمثل الإيقاعات الإشكالية الرئيسية في ذلك النمط الغنائي جانبا رئيسيا، لكن الكلمات التي تحرّض على البلطجة والعنف والتعاطي هي الأساس، ولا تخلو من تركيبات لغوية على غرار “صاحبي دراعى (ذراعي)” و”تاجر سلاح” و”دنيا المشاكل عاوزة (تتطلب) الفاجر”، و”شقلطوني في بحر بيره” (ارموني في بحر من البيرة)، مع وصف للمرأة بألفاظ سوقية. وقال اثنان من مغني المهرجانات، رفضا ذكر اسميهما تحاشيا للصدام مع النقابة، لـ”العرب”، إن الأخيرة تكيل بمكيالين فالفنان محمد رمضان يقيم حفلات ليلا ونهارا دون أن يتدخل أحد، والكثير من المطربين الذين يحظون بالشرعية إنتاجهم لم يتعدّ أغنية أو اثنتين وأصواتهم ضعيفة على عكس فرقهم التي تتطوّر وتواكب الزمن والأحداث ودخلت أخيرا إلى عالم الأغنية الوطنية. وأوضح فنان المهرجانات أورتيغا، لـ”العرب”، بأنهم لا يعتبرون أنفسهم مطربين بل “مؤدون اخترعوا نوعا من الموسيقى تجمع بين الراب والروك، يؤدونها بشكل خاص نال إعجاب الجمهور في الداخل والخارج، حتى باتوا يطلبون بالاسم في حفلات تعقدها جاليات عربية في أوروبا”. ويبدو أن انتقال تجربة المهرجانات من المحلية إلى الخارج كانت المحرك الأكبر وراء قرارات نقابة الموسيقيين التي وصلت إلى المطالبة بالقبض على أي مطرب ينظم حفلا بعد قرار المنع، فالموسيقار حلمي بكر، اعتبرها تشويها لصورة الفن الغنائي المصري عالميا، في وقت تبدأ فيها دول عربية أخرى تجارب غنائية جيدة. ويتطلب تصوير أغاني المهرجانات القليل من الأعباء، فمجرد امتلاك تركيبة كلامية بنهاية حرفية واحدة من أربع جمل، وهاتف محمول ذكي وبرامج مجانية على الإنترنت لمعالجة الصوت وإيقاع واحد يتم اختياره تتشكل معالم فرقة جديدة تصوّر أعمالها في المنزل أو في الحارات الضيقة أو حتى داخل فصول المدارس. وتصعب مواجهة “الأغنية الشبحية” التي لا يعرف أحد من وراءها، فالكثير من أغانيها تخرج بأسماء مؤلفين مجهولين مثل “الشاعر الفاجر” و”سامو الإرهابي”، ويملك من يقومون بتسويقها على التواصل الاجتماعي ألقابا مستعارة أيضا غالبيتها تبدأ بـكلمة “حمو”، لكنها تظل في النهاية “شيئا ما” يُعبّر عن هموم وأحلام طبقة قوامها السواد الأعظم من الفقراء.

مشاركة :