انزلق الجيش المصري، اثر عزله الرئيس محمد مرسي، إلى منطق إلغائي وإقصائي. وبدأت حملات اعتقال جماعي استهدفت «الإخوان المسلمين» وقيادييهم. وحُلت المنظمة «الإخوانية» غير الحكومية التي كانت واجهة الحركة، وصودرت أملاكها، وأُحكِمت القبضة على المساجد. وفي سيناء، شنت عملية كبيرة ضد المجموعات الجهادية الآمرة والناهية في شبه الجزيرة منذ أعوام. لا يخفى أن سبّحة العنف تكر وتؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد. ويساهم وصم «الإخوان» بالإرهاب ودعوة المصريين إلى الاقتصاص منهم، في إطلاق العنان لقوى قد تنفلت من كل عقال. وتدور المواجهات بين معارضي الانقلاب، وقوات الأمن والمؤيدين للانقلاب الذين لبوا الدعوة الإعلامية إلى «تطهير» البلاد من الإسلاميين. ولكن يتعذر ضبط عملية الاحتكام إلى حكم الناس وليس إلى حكم القانون، والنزول إلى الشارع لقطع عملية سياسية وإقالة رئيس، وحراسة الشارع على نحو ما درجت عليه لجان شعبية منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011. وعززت قبضة الجهاز الأمني و»المباحث»، وبلغت مبلغاً عرفته في ذروة القمع في عهد مبارك. والشرطة وقوات الأمن عادت إلى الشوارع، وعجلة المحاكم العسكرية تدور، وحال الطوارئ فُرضت مجدداً، والجيش وضباطه والشرطة أمسكوا بمقاليد المحافظات وعيّنوا شطراً راجحاً من المحافظين. الأقباط ضحية العنف الخطر الإرهابي يتعاظم، خلافاً لما تشتهيه السلطات المصرية. فاعتقال القادة الإسلاميين، يطلق العنان لعناصر غير منضبطة ويساهم في الانزلاق إلى دوامة عنف غالباً ما يكون الأقباط أول ضحاياها. وهم أدوا دوراً نشطاً في جمع توقيعات حركة «تمرد» لإطاحة مرسي. ويخشى أن تستسيغ القوات المسلحة استهداف المسيحيين لتسليط الضوء على الصلة بين الإرهاب والإسلاميين، واستمالة المجتمع الدولي. ويعزز مآل «الإخوان» في السلطة إلى السجن والإقصاء مكانة المتطرفين. فالمجموعات الإسلامية المسلحة مثل «حزب الله» و»حماس» تبدو أقدر على الصمود من نظيرتها السياسية، وتعد بمشروع إسلامي. ويصب في مصلحة المجموعات الجهادية في سيناء، نقل العنف إلى الأراضي المصرية كلها، وهي سعت إلى ذلك حين حاولت اغتيال وزير الداخلية في 5 أيلول (سبتمبر) الماضي. على الحدود مع غزة، يضيق الخناق على الفلسطينيين إثر تدمير أنفاق التهريب، ومشاعر النقمة إزاء الجيش المصري تتعاظم هناك. لكن الجيش يسعى إلى الاقتصاص من «حماس» لقربها من «الإخوان». وسلك عدد من أعضاء هذه الحركة الذين نجوا من الاعتقال طريق المنفى، لكن عدداً آخر يتظاهر لتبقى شعلة قضيته ماثلة أمام المجتمع الدولي. والحركة هذه تلتزم السلمية و»الشرعية»، ويبدو أنها لا تسعى إلى نقض قرارها نبذ العنف في السبعينات. لكن تطرف عدد من «الإخوان» ونسجهم علاقات مع المجموعات المتطرفة ليسا مستبعدين. ولن ترتخي قبضة العسكر على الحكم بعد عام من التعايش مع الإسلاميين، ولكن يرجح أنهم سيحكمون من وراء الأبواب، ويتركون منصب الرئيس لمدني. الأولوية لإرساء الاستقرار، والتزام العملية الديموقراطية في مصر اليوم شكلي. وتؤذن الانتخابات المقبلة، إثر إقصاء «الإخوان» وتربع حزب «النور» وعدد من الإسلاميين محلهم، بطي مرحلة التعدد السياسي في مصر والتي كانت من ثمار «الربيع المصري». واللجنة المكلفة صوغ الدستور الجديد (عدد أعضائها خمسون) تضم في صفوفها إسلاميّيْن و5 سيدات. والدستور هذا أقر بقاء موازنة الجيش خارج رقابة مجلس الشعب، ويرجح أن يلغى بند دستور 2012 الذي يقضي بإقصاء أعيان النظام السابق. القيود تضيق على حرية التعبير، وهي من أبرز مكاسب الثورة، بذريعة حماية مصلحة الدولة العليا. وحُكِمَ الصحافي احمد أبو دراع بالسجن ستة اشهر مع أشغال شاقة، جزاء ذكره الضحايا الذين سقطوا في الضربات على سيناء. والأجانب متهمون بدعم الإرهاب الإسلامي، ويضيق الخناق على الصحافة الأجنبية. وتتراجع مكانة شباب ثورة 25 يناير وغيرهم من أنصار الطريق الثالث (لا الجيش ولا الإسلاميين)، ويتربع محلهم شباب «تمرد» المتحالفون مع الجيش. سريان الطمأنينة في المجتمع المصري، رهن بتحسين ظروف عيش المصريين، وثمن عزوفهم عن النزول إلى الشارع والصدوع بتقييد الحريات. ويجافي الواقع حسبان أن «الإخوان» سيضمحلون بين ليلة وضحاها، فجذور حركتهم تعود إلى 1928، وهي تعرضت في مراحل كثيرة لحملات قمع وانتهجت العمل السري. شبكاتها الخيرية متشعبة، ولا يستهان بخدماتها. وإذا حظّرت شبكات «الإخوان» الخيرية، لن يسع السلطات التعويض عن خدماتها. ولا شك في أن رسوخ نظام مستبد طوال عقود أرسى نموذج حكم ثنائي قائم على قامع ومقموع. ولم يألف المصريون نموذج المساومة والحوار، وثورة مجتمعهم الفعلية هي لدى ادراكه قوة المساومة وعظمتها. ثورة محرومين على الأبواب؟ يشغل القادة المصريين الخوف من موجة ثورية جديدة يغلب عليها الطابع الشعبي. ومثل هذه الموجة قد يرفع لواء انتقام الفقراء من الأثرياء، فينزلق إلى دوامة العنف. ولن تؤطر الثورة الجديدة أطر سياسية، وهي لا تعد بالتغيير جراء تبدد الأمل اثر إخفاق التجربة الإسلامية. فثورة الأمل في 2011 طويت، والثورة المقبلة هي ثورة المحرومين. ويدعو القادة المصريون المجتمع الدولي إلى التغاضي عن تجاوزات حقوق الإنسان والقمع، والمبادرة إلى دعم المرحلة الانتقالية اقتصادياً لتفادي وقوع مصر في براثن الفوضى. لكن منطق العنف يؤجج نيرانه ويثقل على الاقتصاد ويقوّضه، لذا، يدعو الأميركيون المصريين إلى الحوار الوطني، وجعبتهم تكاد تخلو من وسائل حمل قادة مصر على استجابة دعوتهم. وإلى اليوم يقتصر ردهم على تعليق تسليم معدات عسكرية وإلغاء مناورات عسكرية مشتركة. وتؤثر إعادة النظر في المساعدة العسكرية الأميركية (مقدارها 959 مليون يورو) سلباً في صناعة السلاح الأميركية، وترمي القاهرة في أحضان موسكو، في وقت بدأت هذه تقطف ثمار سوء العلاقات المصرية - الأميركية منذ سقوط «الإخوان» وانحسار نفوذ أميركا- النسبي- في الشرق الأوسط. لا يخفى أن الأزمة السورية هي موضع انقسام بين الغرب وروسيا، وتجميد المساعدة العسكرية الأميركية يعزّز مكانة موسكو الجيو- استراتيجية في المنطقة المضطربة. ولم تنظر دول عربية بعين الرضا إلى الربيع العربي، وهي هبّت إلى نجدة القاهرة بـ8.8 بليون يورو، اثر إقالة مرسي. وإذا لم يخرج هذا البلد من شباك الأزمة، سيبقى عالة على المساعدات الخارجية. ولا ريب في أن إجراءات راديكالية من قبيل قطع العلاقات وتعليق المساعدات، لا ترتجى منها فائدة، وتساهم في عزل الغرب في المنطقة. * استاذة جامعية، صاحبة «خفايا مصر»، عن «لوموند» الفرنسية، 15/10/2013، إعداد منال نحاس
مشاركة :