لطالما كانت المبادرات والفعاليات المحفز الأوقع والأكثر تأثيراً في نشر القيم الإنسانية الراقية، وفي مقدمتها التسامح وتأصيلها وترسيخها في نفوس الأفراد والمجتمعات، وفي عام التسامح قدمت الإمارات أروع الأمثلة في تحويل رؤيتها تجاه هذه القيمة إلى حركة دؤوبة وقوانين وسياسات، تجعل منها بنداً راسخاً في منظومة قيم مواطنيها والمقيمين على أرضها، وهو ما تأكد عبر قانون مكافحة التمييز والكراهية، ووزارة التسامح والبرنامج الوطني للتسامح، ولقاء الأخوّة الإنسانية، وزيارة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية للإمارات مطلع فبراير الماضي، والتوقيع على وثيقة الأخوّة الإنسانية بمضامينها العالمية التي تؤسس من جديد لعلاقات إنسانية بين أتباع الديانات تقوم على المشترك الإنساني. الفعاليات تنقل التسامح من رؤية إلى خطوة، ومن أطروحة إلى ممارسة، تصنع ساحة تلاق حقيقية مع الآخر من الأطياف المذهبية والدينية والعرقية كافة، ومن ثم تزداد أهمية الفعاليات كونها واقعاً يساهم في تنشئة المجتمع وتربيته على التسامح، بحيث يصبح ملمحاً يومياً ومساراً ينتهجه الأفراد ضمن مدونة سلوك افتراضية يقرها الجميع. ويبعث على التفاؤل انتشار هذه الفعاليات، سواء كانت زيارة دور عبادة، أو حتى عقد ندوة، أو تهنئة أتباع الديانات في مناسباتهم الدينية، لتكون فرصة لتحفيز ثقافة التسامح قولاً وعملاً. «هنا نصلي معاًً» فعاليات التسامح رافد مهم لنشر هذه القيمة الإنسانية الكبرى، وضمن هذا الإطار جاءت فعالية «ملتقى سانت كاترين لتسامح الأديان»، بعنوان «هنا نصلي معاً» في نسختها الخامسة، والتي تنظمها محافظة جنوب سيناء، من داخل دير سانت كاترين، المعلم التاريخي برمزيته الدينية الكبيرة، كونه يضم «كنيسة سانت كاترين» لطائفة الروم الأرثوذوكس وبه أيضاً مسجد «الآمر بأحكام الله» وبداخله شجرة العُليقة التي ترمز إلى الديانة اليهودية، حيث كلّم النبي موسى ربّه، ديانات ثلاث حضرت رموزها بمكان واحد، في ملمح يؤكد القيم المشتركة، وهذا ما جعل الدكتورة رانيا المشاط وزيرة السياحة المصرية تقول إن المكان «مجمع أديان حقيقي»، مشيرة إلى أن شعار الملتقى «هنا نصلي معاً» يهدف إلى مد جسور التواصل بين البشر.. وهذا المكان أدركت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم أهميته، فأدرجته ضمن أهم 6 مواقع للتراث الثقافي العالمي. رمزية المنطقة تحتوى على دلالات مهمة تعزز التسامح الديني، فسيناء كانت ملتقى الرسالات السماوية، علي بعد 60 كيلو متراً من دير سانت كاترين ، يوجد دير النبي موسى بوادي فيران، ما يدل على تسامح المسلمين في مصر مع أتباع الديانات الأخرى. ولفت توني كازمياس، مستشار مطران دير سانت كاترين، إلى أن الأنبا ديمتري دميانوس، رئيس أسقف سيناء للروم الأرثوذكس، ومطران دير سانت كاترين، وبحضور الأنبا أبوللو، أسقف جنوب سيناء، كرّم محافظ جنوب سيناء اللواء أركان حرب خالد فودة ومنحه نسخة من وثيقة «العهدة المحمدية» لجهوده في تطوير مدينة سانت كاترين ورعاية الدير، وتحتوي وثيقة «العهدة المحمدية» على توصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم للمسلمين بحماية المسيحيين وضمان حرية عبادتهم، الوثيقة توجد أصلاً بمكتبة دير سانت كاترين، ويعود تاريخها إلى عالم 620 ميلادية. 22 سفيراً و8 وزراء الفعالية انطلقت على مدار 3 أيام من 10 إلى 12 أكتوبر المنصرم، وشهدت حضوراً كبيراً تضمن 22 سفيراً و8 وزراء من الحكومة المصرية، والسفراء المشاركون في الفعالية ينتمون لليونان والدنمارك وإيرلندا وفنلندا وسويسرا والاتحاد الأوروبي وجورجيا وكولومبيا واليابان وبولندا والنمسا وصربيا وفرنسا وبلجيكا وأرمينيا ومالطا والمغرب وكازاخستان والكاميرون وعُمان وجمهورية التشيك وطاجكستان. وحضر الملتقى وفد من المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة يترأسه أمين عام المجلس الدكتور محمد البشاري. وخلال الفعاليات التي حضرتها ماجدة هارون، رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، قدمت فرق إنشاد ديني من مصر وكرواتيا ورومانيا والمغرب وروسيا عروضاً فلكلورية في منطقة وادي الراحة بمنطقة دير سانت كاترين، وقدم 15 طالباً من أبناء الجالية المصرية في الإمارات مساهمة في الفعالية، من خلال استعراض مسرحي موسيقي يبين وحدة المصريين بمختلف دياناتهم، وظهر بوضوح تأثر المشاركين بأجواء التسامح التي يعيشونها في الإمارات. ونظمت وزارة الثقافة المصرية عروضاً غنائية تضمنت مجموعة أناشيد صوفية ومجموعة ترانيم مسيحية، إضافة إلى أغان وطنية، ما يعكس التنوع في إطار الوحدة الوطنية. محافظ جنوب سيناء ألقى كلمة ترحيبية، ثم تحدث وزير الأوقاف الأستاذ الدكتور محمد مختار جمعة عن البعد الإنساني للملتقى الذي يُعلي قيم التعايش المشترك بين الناس، خاصة في مكان يتسم بتاريخ عظيم وعميق من التسامح. تطبيق عملي البيان الختامي لملتقى «سانت كاترين لتسامح الأديان» وجّه التحية والتقدير للرئيس عبد الفتاح السيسي لتفضله برعاية هذا الملتقى في إطار اهتمام فخامته بترسيخ أسس التسامح والسلام الإنساني والعيش المشترك، وإحلال لغة الحوار محل لغة الاحتراب والاقتتال. البيان الختامي أكد أن الملتقي يحمل رسالة تسامح للدنيا بأسرها من أرض السلام سيناء وبلد السلام مصر، مفادها أننا دعاة سلام وتسامح نعلي قيمة الإنسان لكونه إنساناً بغض النظر عن دينه أو جنسه أو لونه أو عرقه أو لغته، الإنسان ولا شيء غير الإنسان، فالإنسان أياً كان هو أخو الإنسان. ويحمل الملتقى من التطبيق العملي لنشر التسامح الديني والإنساني وروح الحضارة المصرية أنموذجاً فريداً للعيش المشترك بين البشر جميعاً نأمل أن يكون حلقة مهمة في حلقات التسامح الإنساني وإعلاء قيمة الإنسان وترسيخ أسس وفقه العيش المشترك بين البشر جميعاً. فالملتقى كما أكد الجميع ملتقى إنساني بامتياز، ولا شيء فيه يعلو فوق قيمة الإنسان. تقبل الآخر دون تصنيف وأكد توني كازامياس، مستشار مطران دير سانت كاترين، أن الملتقى ينعقد للمرة الخامسة على التوالي، وطوال السنوات الأربع الماضية شارك في الفعاليات سفراء ووزراء وشخصيات عامة، ضمن مجهود جبار تقوم به محافظة جنوب سيناء، للتحضير لـ«ملتقى سانت كاترين لتسامح الأديان»، والذي يحمل شعار «هنا نصلي معاً» ويرى كازامياس أن هذه النسخة اكتسبت أهمية أكبر لأنها جاءت تحت رعاية فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية، وشاركت فيها فرق شعبية (فلكلورية) من اليونان وأوكرانيا ورومانيا والمغرب وفرق مصرية، في مسعى لبث رسالة محبة وتسامح إلى العالم كله، مفادها لا بد من تقبل الآخر بغض النظر عن ديانته أو جنسيته. الأنبا دميانوس رئيس الدير، أكد أن «ملتقى سانت كاترين لتسامح الأديان» ينطلق من مكان يضم ثلاث أديان، ويتضمن رموزاً للديانات الثلاث، فعلى هذه الأرض تلقى النبي موسى الوصايا العشر، وعليه أيضاً تحدث الخالق عز وجل مع موسى مرتين، مرة عندما قال الله لموسى: (اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)، والمرة الثانية عندما صعد موسى إلى الجبل ليتلقى لائحة بالوصايا العشر، وفي الوقت نفسه يضم المكان مقدسات مهمة للمسلمين والمسيحيين. «دير» يوحّد الآمال أكد الدكتور محمد البشاري أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة أن هذا الحدث السنوي الذي يحمل عنوان «هنا لنصلي معاً» يحمل رسالة مفادها أننا جميعاً نعبد الله، وندعوه بمختلف دياناتنا أن يحقق لنا السلم والسلام، مشيراً إلى أن دير سانت كاترين يوحدنا ويوحد آمالنا، لأننا نتضرر بسبب التوظيف غير الصحيح للدين، والتطرف حالة مرضية تصيب الأديان كافة، ولقاء القيادات الدينية في ملتقى سانت كاترين لتسامح الأديان، الهدف منه العمل من أجل نهضة الأديان والحفاظ على وحدة القيم الإنسانية، والملتقى في حد ذاته فرصة للقيادات الدينية كي تعزز علاقات المودة بينها، فمصدر الوحي واحد وعولمة المخاطر جعلت مصيرنا واحداً. وأشار البشاري أنه في يوم الجمعة 11 أكتوبر الماضي صلى المسلمون في مسجد الوادي بسانت كاترين، وأدى المسيحيون صلواتهم بكنيسة سانت كاترين، وبعد الصلاة التقى المسيحيون والمسلمون في «خيمة المحبة» من أجل التفكير بصوت عال من أجل مستقبل أفضل لأبنائنا. الإمارات قدوة التسامح الحسنة وفي معرض تفاعله مع «ملتقى سانت كاترين للتسامح الديني» ومبادرة «هنا نصلي معاً»، أكد الأب رفعت بدر، مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن، أن هذه مبادرة طيبة تأتي من مصر التي تجمع قطبين دينيين لهما ثقلهما في الشرق الأوسط والعالم: الأزهر الشريف، وما يمثله من مركز إسلامي عالمي فكري، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وكذلك الكاثوليكية، وكل الكنائس المسيحية الأخرى التي تمثل ثقلاً لأعداد كبيرة من المسيحيين في المنطقة. وعندما تجتمع كل أطياف الشعب المصري كي تصلي معاً بحضور الأصدقاء والأشقاء، فهذا دلالة على أن الأخوة الإنسانية هي السمة الغالبية رغم أصوات النشاز والتعصب التي عصفت في المنطقة العربية وفي العالم، فمازال هناك مؤسسات وكنائس ومساجد تعطي دفئاً في العلاقات الإنسانية والاحترام المتبادل سواء من خلال صلاة مشتركة في المسجد، أو في الكنيسة. أضاف: المبادرة تأتي في سنة التسامح التي أعلنتها دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، التي بدأت بتوقيع وثيقة الأخوّة الإنسانية في أبوظبي، لإمارات أطلقت نور التسامح الساطع في كل أرجاء بلادنا العربية والعالم، وعندما نشاهد مزيداً من المبادرات الراقية في التسامح عربياً أو على الصعيد العالمي، فنحن نرى أن رسالة الإمارات قد وصلت، وحققت أهدافها، ورسالة التسامح والإخاء قد نجحت، وعلينا أن نكثف مثل هذه المبادرات، لأنها تمثل قدوة حسنة للأجيال الصاعدة التي تصبو لمستقبل أنقى وأرقى وأكثر عدالة ومحبة بين البشر. إنها مبادرات راقية تهدف لتحسين مناخ العلاقات بين البشر، ونشر رسالة التسامح التي انطلقت من شرقنا العربي ككل الأديان، وهذه السنة تنطلق بشكل خاص من الإمارات التي كثفت وجودها بالدعوة للاحتفاء بالتسامح والعيش الجميل بين مختلف الأطياف البشرية. الزيارات الميدانية أفضل من القراءة أكدت «ليا محموتوفا» رئيسة العلاقات الخارجية وعضو مجلس الإدارة بالجمعية الإسلامية الإستونية، ورئيسة اتحاد المرأة المسلمة في جمهوريات البلطيق، أن زيارة دور العبادة الخاصة بالأديان الأخرى مسألة مهمة تتيح فرصة للتعرف على ثقافة الآخر، ومن ثم التعرف بطريقة مباشرة على رؤيتهم، وهذا أفضل بكثير من القراءة عن هذه الأديان، أو اللجوء إلى مصادر ثانوية أخرى، وهذا بدوره يعزز التسامح، من خلال استفسارات مباشرة نوجهها لهم وتزيل بعض الغموض تجاههم، وتجعلنا نحصل على إجابات مباشرة. وعن تجربتها في إستونيا، تقول«محموتوفا»: يقوم المركز الإسلامي الذي تقام فيه صلاة الجمعة وصلاة الأعياد، بتنظيم زيارات للمدارس الإستونية- بناء على اتفاقية واضحة- كي يتفقدوا المركز، ويطرحوا أسئلة، ويحصلوا على توضيحات تساهم في تعزيز التفاهم والتسامح، والنتيجة نفسها تتحقق في حال زار أطفال مسلمون دور عبادة للديانات الأخرى، وضمن هذا الإطار زار أئمة مسلمون من دول البلطيق المعبد اليهودي في إستونيا، وهذا يتيح فرصة للتعرف على أتباع الديانات الأخرى، ويؤسس- رغم اختلاف عقائدنا- لصداقة معهم، خاصة في ظل وجود رؤى اجتماعية مشتركة من أجل خدمة المجتمع وتحقيق المصالح العامة، ونستطيع إيجاد نقاط مشتركة نعمل من أجلها لتطوير مجتمعنا المشترك. مهرجان فاس للموسيقى الروحية أكد الدكتور عبدالحق عزوزي، وهو أكاديمي مغربي له مساهمات ثقافية كبيرة في الفضاء المتوسطي، أن الفعاليات التي تشارك فيها عناصر متعددة الديانات والثقافات رافد مهم لتعزيز ثقافة التسامح داخل المجتمعات. وضمن هذا الإطار عكست مهرجانات فاس للموسيقى الروحية منذ انطلاقتها عام 1994 مبادئ التسامح واحترام الآخر. عزوزي، الذي كان مديراً للمهرجان عام 2010، يرى أن هذه المهرجانات أصبحت تراثاً عالمياً يعكس أهداف الجمعية المدنية المعنية بتنظيمه، والتي جعلت من مد جسور الفهم المشترك بين كل الثقافات وتقوية الوشائج من بين أهدافها الأولى، ومن بين غايات أنشطتها من مهرجانات ومنتديات عالمية على مر أكثر من عقدين، وهو انعكاس أيضاً- حسب عزوزي- لتاريخ مدينة فاس ولتاريخ المغرب الذي تفاعلت فيه كل الحضارات، ويسعى دائماً هذا المهرجان إلى ترسيخ الجامع المشترك وتذويب تضاريس اللاعقلانية والأحقاد للتقريب بين الشعوب والتأسيس لأسرة إنسانية واحدة تتصدى لكل النزوات الضالة والأفكار المغرضة التي يروج لها عادة ممتهنو التضليل والتعصب، لتحقيق السلام والأمن لكل البشر. الكل يشارك في المهرجانات، مسلمون ومسيحيون ويهود، لا توجد قيود في المشاركة على الانتماءات، بل العكس، هناك حرص على إبراز هذه الفسيفساء الضخمة والجميلة من التنوعات الحضارية والثقافية. قدمت مهرجانات فاس منذ انطلاقتها أي منذ 26 سنة برنامجاً احتفالياً لكل الثقافات العالمية من خلال الموسيقى، وأيضاً من خلال النقاشات والندوات التي تجري موازاة مع المهرجان، وأيضاً من خلال المعارض والليالي الروحانية جعلتها قبلة لكل المريدين من القارات الخمس. وسعى مهرجان فاس من خلال الفن إبراز مواجهة الإرث التقليدي العالمي مع العولمة الثقافية، كما شكل رحلة عبر البحار والقارات لاستكشاف الحضارات الكبرى لآسيا وأفريقيا والشرق والغرب.
مشاركة :