في أحد أزقة مخيم النصيرات للاجئين الفلسطينيين، وسط قطاع غزة، يؤدي عدد من الشبان حركات استعراضية، تندرج ضمن ثقافة وفن الهيب هوب. قفزات في الهواء، والمشي على كف اليد الواحدة مع الرقص السريع بالأقدام في الهواء، والدوران بالرأس، وحركات تُظهر الجسد بشكل مكسور، هذه بعض الفقرات التي قدّمها هؤلاء الشبان، الذين يُطلق عليهم اسم “بريك دانسرز”. يقال عن البريك دانس، إنه سمي بهذا الاسم ليس كما يعتقد الكثير بأن الراقص قد يكسر عظما من عظامه، كما هو واضح من خلال حركاته، ولكن هو فن الاستعراض الممزوح بموسيقى الراب، بحيث يركّز على تناغم حركات الجسد مع الإيقاع المسموع. حالة من الفرحة انتشرت في المكان، حيث تجمّع عدد من أفراد الحيّ ليشاهدوا هذا العرض، الذي يعتبر دخيلا على الفن الفلسطيني كالدبكة الشعبية. رقصة البريك دانس يؤديها الشباب الفلسطينيون في الحَواري والكورنيش والحدائق، وذلك لأن الرقصة تحتاج إلى مساحة واسعة وفضاء لأداء الحركات بسهولة ويسر في أجواء من التحدي. وظهر فن أو ثقافة الهيب هوب بالولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي، بين الأحياء التي يقطنها السود والأقليات، وجاءت كرد فعل لما تعرضوا له من عنصرية، وكوسيلة للتعبير عن مشاكلهم الاجتماعية، وأيضا كتطويع طاقاتهم بدلا من العنف والمخدرات، ثم أصبحت ثقافة رفض الواقع المتردي. وفي الثّمانينات من القرن الماضي، انتشر فنّ الغرافيتي مرتبطا بتاريخ الهيب هوب، لكن حتى يومنا هذا، لا يزال هناك نزاع حول ارتباط الرسم على الجدران بالهيب هوب. وفي التّسعينات نشأ ما يسمى بالغانغستا راب، ثم تحوّل الراب إلى منصّة للشّباب الراغبين في نشر رسائل اجتماعية وسياسيّة منعكسة من الشّارع والأحياء، ما يعطيها طابعا حقيقيا خاليا من العبث. وفي مخيم النصيرات يتردد عشرات الفلسطينيين على مكان يطلقون عليه اسم المدرسة، لتعلّم فنون الهيب هوب، ومنها البريك دانس. البريك دانسر، الفلسطيني أحمد الغريز، والملقّب بـ”شَارْكْ”، يقول إن هذا المكان يمثّل الحاضنة الثقافية الأولى لفنون الهيب هوب والمتمثّلة بـ”البريك دانس، والراب، والبيت بوكس، والغرافيتي”. ويتابع، “بدأ ظهور فن البريك دانس بغزة عام 2001، بشكل فردي، وتطور عام 2004 بإنشاء فريق كامبس بريكر”. وبحسب الغريز، فإن المجتمع الفلسطيني المحافظ لم يتقبل في البداية، فكرة ظهور فن البريك دانس، لكنّ استمرار العروض، جعل الناس يعتادون عليه شيئا فشيئا. الاعتراض، بحسب الغريز، تمثّل في أن هذه الثقافة غريبة عن المجتمع الفلسطيني، الذي اعتاد على الفن الملتزم بالتراث والقضية. وللتغلب على نفور المجتمع من هذا الفن الدخيل، يقول الغريز، قررت فرقة كامبس بريكر، دمج القضايا المجتمعية كالفقر والبطالة، والانتهاكات الإسرائيلية، في فقراتهم الاستعراضية. وأصبح الشباب يترجمون قضاياهم وهمومهم وأحلامهم عبر هذه الرقصات التي يبذلون لأجلها ساعات متواصلة من التعلم والتدريب بجهد مضاعف ليصلوا إلى إتقانها بلياقة بدنية عالية ودقة وصبر وندية وتحدّ، فكل متدرب هنا حجز لنفسه عبر الهيب هوب بطاقة حلم للوصول للعالمية. وأشار أحد الراقصين إلى أن ثقافة الهيب هوب تقوم بتفريغ جزء كبير من الطاقة السلبية التي بداخل المتعلمين، فعند ممارسة هذه الفنون تتحول الطاقة السلبية إلى طاقة إيجابية عبر رقصات وحركات فنية جميلة. لذلك نجحت الفرقة في دفع العديد من فئات المجتمع لتقبل هذا الفن، وبدأ عشرات الأطفال والشبان بالانضمام إليها. واستكمل الغريز قائلا، “كما أن هذا الفن يعتمد على اللياقة البدنية، ويساعد الأطفال والشبان في ممارسة الرياضة، كما يقدّم لهم توعية غير مباشرة بضرورة الحفاظ على النظافة الشخصية وتنظيم الوقت”. وبيّن الغريز، أنه من خلال هذا الفن، يتم تقديم الدعم النفسي للأطفال أيضا، حيث يترك لهم المجال لتفريغ الطاقات السلبية من خلال تأدية الحركات الراقصة والاستعراضية. ويضيف، “في عام 2009، شاركت الفرقة في مشروع دعم نفسي للأطفال، حيث قدّمت عروضها الفنية داخل عدد من المدارس، والمراكز”. ويشير إلى أن الفرقة نشرت مدربيها، عام 2009، في مناطق مختلفة بقطاع غزة من أجل تعليم أكبر عدد من الشبان أساسيات رقصة البريك دانس. وتُدرّب فرقة “كامبس بريكر” حاليا نحو 5 مجموعات، تضم كل واحدة من 8 إلى 10 أشخاص، ضمن الفئات العمرية من 6-20 عاما. وتابع الغريز، “التمرينات المخصصة للفئات العمرية الصغيرة، تختلف عن تدريبات الفئات العمرية الأعلى”. وأجرت الفرقة عام 2015 بطولات محلية في البريك دانس، وبعد ذلك، غادر أعضاء فرقة كامبس بريكر لتمثيل دولة فلسطين بفن البريك دانس في أوروبا. وقدّم أعضاء الفرقة عروضهم بأكثر من دول أوروبية، ودمجوا فيها معاناة غزة والصعوبات التي كانت تواجههم كراقصي هيب هوب في القطاع. وقال الغريز، “قدمنا عروضا تمثل الفقر والجدار الفاصل العنصري، واضطهاد المرأة، والحروب وانقطاع التيار الكهربائي وغيرها”، مضيفا، “أوصلنا رسالتنا كشعب مسالم يبحث عن العيش الآمن، والحرية كأي إنسان”. وعاد الغريز، إلى قطاع غزة بداية عام 2019، لتنفيذ المشروع التطوعي “غزة على قيد الحياة 2” برفقة وفد إيطالي وفرنسي، من ضمنه أفراد متخصصون بالمجال النفسي، ومدرّب لفن الراب، وآخر لفن الغرافيتي. ولا يتخذ الغريز من تدريب هذا الفن مصدرا للدخل، إنما يسعى من نشره إلى “بث الفرحة في المجتمع”، كما يقول.
مشاركة :