ساهم التقدم في مجال التكنولوجيا العصبية في تطوير رقائق إلكترونية دقيقة تزرع في مقلة العين تحاكي في وظائفها الشبكية، وأخرى تزرع في منطقة الإبصار داخل الدماغ وتتولى تغذيته بالمعلومات البصرية. وتهدف هذه التقنيات إلى تمكين المكفوفين من استعادة البصر ورؤية العالم من جديد. لكن رغم إمكانياتها المحدودة في التجارب السريرية الأولى، ومساهمتها في استعادة بعض المكفوفين جزءا بسيطا من قدرتهم على الرؤية، إلا أن الأطباء يطمحون في أن تساهم هذه التجارب الأولية التي لا تزال في مهدها في تحسين نوعية حياة ضعاف البصر والمكفوفين بقدر أكبر. ويتوقع الخبراء ارتفاعا في معدلات الإصابة بالعمى بين البشر في جميع أنحاء العالم إلى ثلاثة أمثال ما عليه الآن في غضون العقود الأربعة المقبلة، وذلك في حال عدم توفير المزيد من الدعم والتمويل لتحسين طرق العلاج. وتتعدد الأمراض التي تضعف البصر وتؤدي إلى العمى، فعلى سبيل المثال، يسبب مرض الغلوكاما أو الماء الأزرق الذي يحدث نتيجة ارتفاع الضغط بالعين تلفا في أنسجة العصب البصري وبذلك تفقد العين قدرتها على الإبصار. ويؤدي التنكس البقعي، وهو نوع من الأمراض الشائعة في العين يسبب فقدان الرؤية المركزية، إلى فقدان البصر لمن تجاوز 50 عاما فأكثر، ومن عوامل الإصابة بهذا المرض هو التقدم في السن بالإضافة إلى العامل الوراثي. إضافة إلى ذلك، يمكن للعين أن تفقد الرؤية بسبب مرض التهاب الشبكية الصباغي وهو من بين الاضطرابات الوراثية التي تحدث للعين، ومن ضمن أعراضه وجود مشكلة في الرؤية ليلا وقلة الرؤية الجانبية. ويعتبر كذلك اعتلال الشبكية السكري من أكثر المسببات لحالات الإصابة بالعمى، وهو أحد مضاعفات داء السكري التي تصيب العين. ويحدث هذا المرض بسبب تلف الأوعية الدموية بالأنسجة الحساسة للضوء الموجودة في الشبكية ما يشكل خطورة على القدرة على الرؤية. وهذا التنوع في أسباب ضعف البصر يجعل العثور على الحلول أكثر صعوبة، ولكن التقدم في مجال الهندسة العصبية يحيي الآمال في أن يصبح كل شكل من أشكال اضطراب الرؤية قابلا للعلاج. وتوجد العديد من التقنيات المعتمدة حاليا والتي تتراوح بين التصحيح الوراثي باستبدال الجينات المتضررة بجينات سليمة لإحياء وإنعاش الخلايا المسؤولة عن استقبال الضوء وذلك لبعض الحالات المرضية الوراثية التي تؤدي إلى ضمور خلايا شبكية العين المسؤولة عن استقبال الضوء، وبين التجديد الخلوي باستخدام خلايا جذعية لتعويض الخلايا أو الأنسجة التالفة في الشبكية. وتعمل الشبكية في الجزء الخلفي من العين على تحليل إشارات الضوء ونقل الإشارات الكهربائية إلى الدماغ وعندما لا تلعب هذه المستقبلات الضوئية دورها بسبب أمراض مختلفة تكون الرؤية ضعيفة. وبالنسبة إلى الأشخاص الذين ليست لديهم أي وظيفة متبقية للشبكية فإن اتباع نهج إلكتروني بديل قد يكون أكثر أهمية، وذلك باستبدال هذه الخلايا بشرائح إلكترونية دقيقة تحاكي وظائفها. وتهدف الهندسة العصبية وهي مجال ناشئ متعدد التخصصات، إلى تطوير واجهات يمكن أن تتفاعل مع الدماغ لتصحيح مشكلة ما مثل النظر أو السمع أو الشلل، وعلاج الاضطرابات العصبية والعقلية مثل مرض باركنسون والصرع وكذلك فهم وظائف المخ. وقد طور المهندسون طرقا للتعامل مع الدوائر العصبية في الدماغ عبر تيارات كهربائية والضوء والمجالات المغناطيسية. فعلى سبيل المثال يمكن تحريك إصبع أو ذراع أو حتى تحريك الساق فقط عن طريق تنشيط الخلايا العصبية في القشرة الحركية وبالمثل يمكن تنشيط الخلايا العصبية في القشرة البصرية لجعل الناس يرون ومضات الضوء. ويوجد في الدماغ البشري ما يقارب 100 مليار خلية عصبية وتريليونات من الروابط بينها ومنظمة في مناطق مختلفة من الدماغ وكل منها يدعم مهمة معينة، كمعالجة المعلومات المرئية أو السمعية أو اتخاذ القرارات. وقد قام العلماء بقياس أن 30 بالمئة من القشرة الدماغية تتم تعبئتها لتفسير ما تراه العين من أشكال وألوان ومسافات، في حين أنه يتم تخصيص 8 بالمئة لمعالجة المعلومات اللمسية و3 بالمئة للمعلومات السمعية. ويستخدم الدماغ طاقة أقل من المصباح الكهربائي لتوليد تصور واع للعالم، ويرى الخبراء أن أفضل طريقة لاختبار فهم العقل هي بناء جهاز يمكنه التفاعل معه بأمان وكفاءة عالية. وفكرة العين الإلكترونية أو الرؤية الاصطناعية لم تعد ضربا من الخيال العلمي، فبعد عقد من العمل على الحيوانات لتحديد مقدار التيار الكهربائي الذي يمكن تطبيقه بأمان على العين أو في الدماغ، أحرز العلماء تقدما كبيرا في وسائل تمكين المكفوفين من الإبصار مجددا. وتخطوا بذلك عقبات في غاية الصعوبة تتمثل في زراعة أقطاب كهربائية في شبكية العين التي لا يتعدى سمكها سمك الورقة دون الإضرار بها، أو حتى تجاوز طبقة الشبكية وزرع تلك الأقطاب مباشرة في منطقة الإبصار داخل الدماغ، الذي يعتبر من أكثر أجزاء الجسم حساسية وتعقيدا، دون الإضرار بأنسجته العصبية. ولكن كيف تعمل تلك الأجهزة؟ وما الذي يمكن أن تحققه لمستخدميها؟ تمكنت في السنوات الأخيرة شركة “ساكند سايت” من تطوير جهاز “ارغوس 2”، وهو جهاز متاح في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وفي بعض الدول الآسيوية، للأشخاص الذين فقدوا بصرهم بسبب مرض التنكسية في شبكية العين مثل التهاب الشبكية الصباغي والتنكس البقعي، وهناك حوالي أكثر من 300 شخص حول العالم يستخدمون هذا الجهاز. ويتكون النظام من ثلاثة أجزاء: كاميرا فيديو مثبتة على نظارة شمسية، ووحدة معالجة وشريحة تحتوي على مصفوفة من الأقطاب الكهربائية يتم زراعتها على سطح الشبكية. وتقوم الكاميرا بنقل الصور إلى وحدة المعالجة التي تحول الإشارات إلى إرشادات يتم إرسالها لاسلكيا إلى الأقطاب الكهربائية المزروعة في الشبكية، وحين يتم تنشيط هذه الأقطاب ترسل إشارات على طول العصب البصري إلى المخ. ويوفر الجهاز رؤية محدودة فقط، ويمكن المستخدمين من اكتشاف مصادر الضوء، ويمكن للبعض فك رموز الحروف الكبيرة، ولكن غالبا ما تكون الرؤية ضبابية ويصعب تفسيرها، وتعود هذه العيوب إلى كون أقطاب الجهاز الستين توفر دقة منخفضة جدا مقارنة بالملايين من خلايا مستقبلات الضوء في العين الطبيعية. وطورت شركة “ساكند سايت” مؤخرا جهاز “اوريون” وهو جهاز يتخطى العين والعصب البصري تماما ويتواصل مباشرة مع القشرة البصرية، وهو موجه لأشخاص كانوا قادرين على الرؤية ثم فقدوا بصرهم بسبب المرض أو الحوادث. ويقوم النظام لاسلكيا بتحويل الصور الملتقطة بواسطة كاميرا فيديو صغيرة مثبتة على نظارات شمسية إلى سلسلة من النبضات الكهربائية، وتحفز النبضات مجموعة من 60 قطبا مزروعا على قشرة المخ المرئية والتي تتصور أنماطا من الضوء وتفسرها كدلائل بصرية، ما يعزز قدرة المستخدمين على التنقل في العالم من خلال استعادة قدرتهم على اكتشاف الحركة وتمييز الضوء والظلام. وخضع إلى حد الآن ستة أشخاص لعملية زرع دماغية تجريبية لنظام “اوريون”، الثلاثة الأوائل في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس واثنان في كلية بايلور للطب في تكساس والسادسة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس. ومن بين المشاركين في هذه التجارب السريرية، الجنوب أفريقي جيسون استرهويزن، الذي أصيب في حادث سيارة مروع أدى إلى تدمير عينه بالكامل ما أغرقه في ظلام دامس في سن الثالثة والعشرين من عمره، واليوم بفضل جهاز “اوريون” التجريبي الذي تم زرعه في دماغه من قبل مختصين من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس استعاد الإدراك البصري والمزيد من الاستقلالية. ويقول استرهويزن “المرة الأولى التي رأيت فيها نقطة بيضاء صغيرة كنت عاجزا عن الكلام، كان أجمل ما رأيته على الإطلاق”. ويضيف “أرى نقاط بيضاء على خلفية سوداء مثل النظر إلى النجوم في الليل، وعندما يسير شخص نحوي أرى ثلاث نقاط صغيرة وكلما اقترب مني تضاء المزيد والمزيد من النقاط، ويمكنني الآن فعل أشياء لم أكن أفعلها من قبل، فبإمكاني فرز الغسيل والعثور على طريقي في الممرات المضاءة دون استخدام عصا، وعبور الشارع بأمان أكبر، إن حياتي أصبحت أسهل بكثير”. ويقول الدكتور نادر بوراتيان، جراح الأعصاب في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس، “هذه هي المرة الأولى التي لدينا فيها جهاز قابل للزرع بالكامل ويمكن للأشخاص استخدامه في منازلهم دون الحاجة إلى توصيله بجهاز خارجي”، مضيفا أن هذا الجهاز لديه القدرة على استعادة الرؤية المفيدة للمرضى الذين أصيبوا بالعمى بسبب الجلوكاما واعتلال الشبكية السكري والسرطان والصدمات. ويأمل بوراتيان وزملاؤه في تكييف الجهاز في يوم من الأيام لمساعدة الأشخاص الذين ولدوا مكفوفين. ويقول الدكتور ويليام بوسكينغ، أستاذ مساعد لجراحة الأعصاب في جامعة بايلور، في بيان “على الرغم من أن المرضى مازالوا لا يتمتعون برؤية واضحة تماما إلا أنهم قادرون الآن على التقاط النماذج المرئية الأساسية مثل مكان الرصيف والعشب أو موقع النافذة، وهذا كاف لإحداث فارق كبير في حياتهم اليومية”. ورغم أن المشروع لا يزال في مراحله الأولى ولا يوفر رؤية طبيعية. إلا أن الباحثين متفائلون بأن هذه التقنية يمكن صقلها والبناء عليها في السنوات القادمة وقد يتمكنون في يوم ما من استعادة البصر الوظيفي للمكفوفين. ويرى الخبراء أنه من الناحية النظرية إذا ما تمت زراعة مئات الآلاف من الأقطاب الكهربائية لتحفيز الآلاف من البقع من القشرة البصرية فإنه بالإمكان إنتاج صورة بصرية غنية، والأمر أشبه بلوحة تستخدم النقاط حيث تتجمع الآلاف لإنشاء صورة كاملة. ويحاول العلماء الجمع بين الأفكار المستقاة من علم الأعصاب وعلوم وهندسة الكمبيوتر وعلم النفس المعرفي لتطوير برامج وخوارزميات تتنبأ بما يجب على الناس رؤيته لأي نمط تحفيز كهربائي معين، لبناء واجهات أكثر ذكاء تتواصل مع الدماغ بلغته الخاصة وتحقق أقصى قدر من التطبيق العملي للرؤية الصناعية. وإلى أن يحين ذلك الوقت الذي يتمكن فيه العلماء من معرفة شيفرة الرؤية في الدماغ وتطوير تكنولوجيا تمكن المكفوفين من استعادة الإبصار الوظيفي بالكامل، يعتبر مجرد رؤية الأشكال لمن فقدوا أبصارهم لسنوات سببا كافيا لشعورهم بالسعادة، فالعمى كما يقول عالم العيون في جامعة فلوريدا في غاينيسفيل ويليام هاوسويرث إنه أحد أكثر الظروف التي تغير حياة الإنسان، فبالإضافة إلى الصعوبات التي يسببها التنقل، يرتبط ضعف البصر بمجموعة من المشكلات الصحية الأخرى بما في ذلك الأرق والقلق والاكتئاب وحتى خطر الانتحار، ومن شأن استعادة الرؤية ولو نسبيا أن يحدث تحسنا لا يمكن تصوره تقريبا في نوعية الحياة.
مشاركة :