"ساتيريكون فيلليني"Fellini Satyricon هو أكثر أفلام فيلليني طموحا وأكثرها صعوبة وتعقيدا في الشكل. إنه تجربة شديدة الخصوصية ليس فقط في السينما الأوروبية والإيطالية عموما بل في سينما فيلليني بوجه خاص. يخرج فيلليني في فيلمه هذا عن السياق السردي التقليدي، ويتخلّى عن فكرة الشخصية التي تدور من حولها الأحداث (كما كان الأمر في “8 ونصف” و”حياة اللهو”- لا دولشي فيتا) فهو يتعامل مع نص غير مكتمل ينتمي إلى الماضي السحيق، إلى عصر الإمبراطور الروماني نيرون، هو نص “ساتيريكون” الذي كتبه بيترونيوس في القرن الأول، لكن فيلليني يلهو ويتلاعب به كما يشاء، يتدخل في السرد، يضيف ويستبعد، ليقدم رؤيته المعاصرة عن “روما القديمة”: كيف كانت وكيف تفسخت وسقطت بعد أن أصبح هناك من البشر من لا يتورعون عن أكل لحم الموتى تهالكا على وراثة الثروة، ولكنه يجد أيضا تشابهات ومقاربات مع العالم الحديث الذي نعيش فيه بعد أن غابت الثقافة وتدهور الفن وطغى الجشع والصراع حول النهب. من أجل تحقيق طابع التغريب يستخدم فيلليني عبارات كثيرة بلغات مختلفة: الإيطالية واللاتينية واليونانية، كما تتردد عبارات وهتافات باللغة العربية في بعض مشاهد الحشود فيلليني يبتكر ويخترع ويقدّم عرضا هائلا من خلال اللوحات و”التابلوهات” التي تستعرضها الكاميرا، وتعكس نظرته لمفهوم “التدهور” على صعيد الحلم أو بالأحرى، الكابوس. إنه يكسوها بصبغات لونية قاتمة، ويجعلك تشعر معظم الوقت بحركة الكاميرا كوسيلة للتغريب، فهو لا يقصد تقديم “دراما تاريخية”، بل يعرض صورة مرعبة لنهاية حضارة. لكنه لا يعود إلى روما المكان فقط، بل إلى روما الثقافة والهوية وأساليب العيش والحكم وطرق التعامل بين البشر والتقسيم الطبقي من خلال الحلم الواعي إذا جاز التعبير، أو “الحلم الثقافي” الذي تم تجهيزه في ذهن فيلليني مسبقا. في 1969 أُنتج فيلم بعنوان “ساتيركون” من إخراج جيان لويجي بوليدورو، لذلك أطلق فيلليني على فيلمه “ساتيريكون فيلليني” لتمييزه عن الفيلم السابق الذي ذهب سريعا طيّ النسيان. وإذا كان صحيحا أن فيلليني اقتبس فيلمه من كتاب بيترونيوس، إلا أن من الخطأ القول إنه كان يرغب في صنع “فيلم تاريخي”، فتاريخية “ساتيريكون” ليست سوى غطاء خارجي فقط أو “حيلة” فنية، وحتى صلته بالنص الأصلي الذي كتبه بيترونيوس ليست قوية، فالنص لم يبق منه سوى بضعة فصول مبتورة. وربما تكون فكرة الانقطاع وعدم التراتبية قد أغوت فيلليني، كونها تحرره من السرد المتسلسل، وتتلاقى مع مفهومه الخاص في وجود فترات انقطاع في التاريخ. عالم الأحلام يقول فيلليني في حوار مع الكاتب الشهير ألبرتو مورافيا (نشر في مقدمة الكتاب الذي يحوي نص سيناريو الفيلم)، “لقد حاولت أن أستبعد ما يسمى بـ’التاريخ’ بوجه عام. حاولت أن أتخلص من فكرة أن العالم القديم كان له وجود حقيقي. لذلك فالجو العام للفيلم ليس تاريخيا، ولكنه أقرب إلى عالم الأحلام. ربما لم يكن للعالم القديم وجود على الإطلاق، ولكن لا شك أننا قد حلمناه. إن ‘ساتيريكون’ يحتوي على الشفافية الغامضة، على صفاء الأحلام ورموزها المُبهمة. لقد تركز جهدي في هذا الفيلم على القيام بعمليتين متوازيتين ومتناقضتين تماما في نفس الوقت. فكل شيء في الفيلم هو من اختراعي: الوجوه والإيماءات وأوضاع الأشخاص والأدوات.. الخ. ولكي أحصل على هذه النتيجة، كان يتعيّن عليّ أن أثق في قدرتي وخيالي المشوب بقدر من العاطفة. ولكنني كنت مضطرا أن أجسد، بموضوعية تامة، ثمرة هذه العملية التخيلية، وأن أنأى بنفسي تماما بعيدا عنها حتى أستطيع أن أنظر إليها مجددا ككيان متماسك، ولكن لا يمكن لمسه. وهذا نفس ما يحدث مع الأحلام. إنها تتضمن أشياء تخصنا تماما، نعبّر من خلالها عن أنفسنا، ولكن في ضوء النهار، تصبح العلاقة الوحيدة التي يمكننا أن ندركها بيننا وبين الأحلام، علاقة ذهنية تصورية. وهكذا يتضح لنا لماذا تبدو الأحلام بالنسبة لذواتنا الواعية، بعيدة، نائية، غريبة عنا، مستغلقة على إفهامنا”. قد يكون فيلليني هو أفضل من وصف فيلمه بالكلمات، بينما مال الكثيرون لاعتباره تعبيرا مجازيا عن فترة الاضطراب السياسي التي شهدتها إيطاليا في الستينات، أي وقت التفكير في صنع الفيلم. أما البعض الآخر، مثل الكاتب والمخرج الايطالي جيان فرانكو أنجلووتشي، فقد أرجع الفيلم إلى ما ترسّخ في وعي فيلليني من طفولته عن إيطاليا الفاشية، وكيف أنه كثيرا ما كان يعبّر عن سخريته منها وهجائه لها في أفلامه، وربما يكون قد رأى تشابها بين الفاشية (الحديثة) وذهنية مجتمع روما القديمة. في الفيلم قصة أخرى ترتبط بالموت واحتقار الموت. فعندما يموت أحد الأثرياء يفتحون وصيته ليجدوا أنه أوصى بأن يأكل أقاربه جثته شرطا لكي يرثوا ثروته. وبعد تردد وتلعثم واضطراب يحزم الجميع أمرهم ويشرعون في تقطيع الجثة ثم يمضغون لحم الميت يصحّ تأثر فيلليني بالجانبين، لكن فيلليني كان يقصد أساسا تأمل الحاضر في ضوء وحشية عالم روما القديم وافتقاده للقيم الروحانية من خلال ذلك “الحلم” الطويل الممتد، المتقطع، المبهم، وغير المترابط، من خلال لوحات متأثرة بأساليب فنية عديدة يقول فيلليني إنه استقاها من “الفن البيزنطي واليوناني والحداثي والبوب آرت والسيكوديليك وفنون البوهيميين” كما يستخدم فن الغروتسيك (أنماط من الفن الذي يمزج بين الغموض والصدمة والمناظر المقرفة المفزعة) ولوحات الفريسكو الضخمة (الرسوم الملوّنة على الجدران والأحجار). هذا “التجريد” دفع بعض النقاد إلى رفض الفيلم مثل الناقدة الأميركية الشهيرة بولين كيل التي اعتبرته “محاكاة عصرية لفيلم سيسل دو ميل “علامة الصليب” (1932)، ولكن أقل إمتاعا بسبب افتقاده للشخصيات، ففيلليني هو البطل الأوحد”. إلا أن بولين كيل أشارت على نحو عابر، إلى نقطة شديدة الأهمية عندما قالت إن الفيلم “عرض جذاب لفرضية مشكوك فيها تتمثل في أن غياب الإله يعادل غياب القانون”. الخطيئة والسقوط فيلليني ابن الثقافة الكاثوليكية رغم تمرده عليها، فهو لم يتخلّ قط عن مفاهيمه “الأخلاقية” المرتبطة بالدين أو بمفهوم الألوهية. وترتبط مشاهد التدهور والسقوط في “ساتيريكون” بفكرة الخطيئة وغياب الإيمان. وفيلليني يرى أن غياب “جوهر” الروح في مجتمع روما الحديث إنما يتشابه في الكثير من ملامحه مع ما كان سائدا في مجتمع روما القديم، قبل ظهور المسيحية. إنه يجسد في مشاهد متتالية تفشي مظاهر القسوة والوحشية والشذوذ والاغتصاب وتشويه الفن والاعتداء الفظ على المرأة، وممارسة الجنس الجماعي، مع مناظر ذبح الحيوانات وبقر بطن الخنزير التي يخرج منها العشرات من الدجاجات وقطع السجق، والتجشؤ بصوت عال وتكراره باعتباره دلالة على القوة، وإخراج الريح من المؤخرات (من قبل الممثل على المسرح) دلالة على تدهور الفن المسرحي، مع استعباد البشر وقهرهم وقتل المعبود المقدس (الهرمافروديت) الذي يمتلك الخلاص. يظهر انكلوبيو (الممثل الإنكليزي مارتن بوتر) في معظم مشاهد الفيلم نموذجا للبطل الخاسر باستمرار الذي يُنتزع منه حبيبه “جيتوني” في البداية. ينتزعه صديقه أشليتوس، ثم يدعوه الشاعر “أمولوبوس” الذي يلتقيه في متحف إلى منزل الثري الفظ “تريمالشيو”سارق الشعر. وهو يتناول الطعام بشراهة فظة ويهين زوجته على الملأ ويحتقر الجميع ثم يأمر بتعذيب الشاعر، وبعد ذلك يقوم بتمثيل موته فيرقد داخل قبر محفور على مقاسه، لكي يقص على رفاقه وحاشيته قصة (يونانية) في السخرية من الموت هي قصة المرأة التي مات زوجها الثري في الصحراء. قتله لص شنقوه وعلّقوا جثته بالقرب من جثة الثري الممددة فوق منضدة وعينوا حارسا عليها. يغوي الحارس الأرملة الحزينة التي تريد الانتحار بعد موت زوجها، فتمارس معه الجنس باستمتاع، لكن اللصوص يستغلون الفرصة فيسرقون جثة اللص من فوق المشنقة، ويقع الحارس في ورطة كبيرة: ماذا سيفعل الآن وكيف سيبرر موقفه أمام أصحاب السلطة الذين أسندوا إليه المهمة؟ لكن المرأة تقترح تعليق جثة زوجها في المشنقة بديلا لجثة اللص مرددة “عشيق حي خير من زوج مشنوق”. هذه هي القصة الأولى التي نراها من داخل الفيلم. في الفيلم قصة أخرى ترتبط بالموت واحتقار الموت. فعندما يموت أحد الأثرياء يفتحون وصيته ليجدوا أنه أوصى بأن يأكل أقاربه جثته شرطا لكي يرثوا ثروته. وبعد تردد وتلعثم واضطراب يحزم الجميع أمرهم ويشرعون في تقطيع الجثة ثم يمضغون لحم الميت. انكلوبيو سيشهد هذه الأحداث كلها، بل سيشهد على انهيار روما، وسينجو من الزلزال المدمر ويخوض مغامرة طويلة تقوده من اللذة إلى الألم، ومن منزل الثري الفظ إلى منزل الأرستقراطي الذي يمنح عبيده كل ما يملك من ثروة ثم ينتحر مع زوجته بعد أن أدرك أن النظام القديم في طريقه للسقوط، ثم يشترك انكلوبيو مع صديقه أشليتوس في ممارسة الجنس مع فتاة أفريقية جميلة ظلت وحيدة في منزل الأرستقراطي المنتحر، ثم يقع في الأسر مع أشليتوس ويصبح عبدا يعمل في قاع سفينة رومانية يبحر عليها الإمبراطور، ويخضع لمنازلة مع تاجر عبيد عجوز قبيح ذي عين واحدة يقهره ويتزوجه، لكن الحراس ينقلبون على الإمبراطور ويقتلون تاجر العبيد لينجو انكلوبيو الذي يتركونه داخل متاهة حيث يتعيّن عليه منازلة الكائن الخرافي “مينوتور” وهو كائن ينتمي إلى الميثولوجيا اليونانية، له رأس بغل وجسد رجل، ثم يكتشف أنهم يلهون به ويسخرون منه وأن المينوتور شاب قوي يعفو عنه بسبب براعته في استخدام كلمات التضرّع. انكلوبيو سيكتشف فقدان قدرته الجنسية عندما يطلبون منه مضاجعة امرأة شهوانية مكافأة له على بلاغته. ينشد العلاج عند الساحرة أونوثيا التي ستصبح قصتها هي القصة الثانية التي نراها من داخل الفيلم. كانت أونوثيا امرأة شابة جميلة مغوية أراد ساحر ثري عجوز شديد القبح، أن يستولي على جمالها، فسخرت منه، فغضب عليها وجعل النار تشتعل من بين فخذيها إلى الأبد. هذه المرأة تعمل في خدمتها امرأة عجوز قبيحة جدا تمنح انكلوبيو شرابا ثم تطلب منه مضاجعتها، وبعد ذلك تعود إليه قوته الجنسية! تجريد وتغريب الشخصيات تتحرك على خلفية جدار أو صخر أو صحراء أو في فضاء مفتوح معزولة عن المحيط، فالمكان مجرد: مذبح حيوانات، متحف لأعمال النحت، معبد يتم داخله بتر ذراع رجل، بيت دعارة، ولائم مليئة بالأطعمة والذبائح، فوفرة الطعام كانت دلالة على القوة. من أجل تحقيق طابع التغريب يستخدم فيلليني عبارات كثيرة بلغات مختلفة: الإيطالية واللاتينية واليونانية، كما تتردد عبارات وهتافات باللغة العربية في بعض مشاهد الحشود (المقصود منها تحقيق تأثير جمالي فقط فليس مهما أن يفهم المشاهد ما يقال)، ويجمع بين البشر من أجناس وألوان مختلفة، ويصور أكبر سمكة ظهرت في فيلم سينمائي، ونحو اثني عشر شخصا يخرجونها من البحر في مشهد سيريالي تماما، وأشخاصا كثيرين يرتدون أقنعة، وأقزاما وعاهرات سمينات، وسفنا تبدو مثل الوحوش الضخمة ذات الأسنان الأسطورية، ومجموعات بشرية عارية تهتف في صخب وتخضع في مذلة واستكانة للأثرياء المهيمنين. يسرق انكلوبيو وأشتيلوس الكائن المقدس “الخنثى” أو (الهرمافروديت) الذي يمتلك القدرة على شفاء المرضى، طامعين في طلب فدية، لكنه يموت تحت شمس الصحراء، وكأنهما قتلا من يمتلك القدرة على الخلاص. “ساتيريكون فيلليني” قصيدة شعر حداثية، واستعراض بصري مدهش لعالم غير متماسك، مهتز، من الصور والتداعيات التي تندلع من قلب كابوس فيلليني عن الجحيم، بالمعنى المادي أيضا وليس بالمعنى الأخلاقي فقط، الجحيم دون المطهر ودون الجنة. ولعل فكرة عدم التجانس أغوت فيلليني بالسياق الذي اتبعه، أي بالمشاهد المتفرقة التي لا تكتمل، وبجعل النهاية أيضا لا تكتمل. ففي المشهد الأخير يتوقف انكلوبيو في “مونولوجه” الطويل قرب البحيرة، بعد أن يدرك أن رفيقه أشليتوس قد مات. يرثيه بأشعار الفقدان ويبكيه ثم يسير في الصحراء تحت السحب السوداء الكثيفة مبتعدا حزينا. ومع الاختفاء التدريجي ثم الظهور التدريجي نراه قرب سفينة عجيبة يروي لنا عن رحلته المرتقبة إلى أفريقيا، ثم يقول إنه زار بلادا كثيرة والتقى بشاب إغريقي “قال له”… لكنه لا يكمل الجملة. وتجمد اللقطة على صورته، ثم تتبدل الصورة لتصبح لوحة فريسكو ضخمة على قطعة صخرية. تتراجع الكاميرا ويعلو صوت صفير الريح، ثم تظهر جميع شخصيات الفيلم تدريجيا مرسومة على قطع حجرية ضخمة منفصلة. لم يبق من “العالم القديم” سوى أحجار، والشخصيات التي رأيناها ليست سوى خيال منقوش على الأحجار، لن نستطيع أبدا أن نفهمها أو نسبر أغوارها. أليس هذا كل ما بقي من روما القديمة!
مشاركة :