يكشف التناقض الشديد بين الخطاب السياسي اللّين الرائج في العراق بشأن موجة الاحتجاجات العارمة، والممارسات بالغة العنف تجاه المحتجّين، حالة من الارتباك الشديد لدى رموز النظام السياسي وكبار قادته إزاء أكبر معضلة تواجه هذا النظام منذ قيامه قبل ستة عشر عاما. وبينما تَوَاصل سقوط القتلى والجرحى في الشوارع بسبب استخدام العنف المميت من قبل القوات الأمنية العراقية والميليشيات الرديفة لها ضدّ المحتجّين، واصلت الرئاسات العراقية الثلاث، رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب، تصدير خطاب مرن متفهّم لحركة الاحتجاج ورافض لأي حلّ أمني بمواجهتها. ويعتبر متابعون للشأن العراقي أن هذه الازدواجية، تتجاوز كونها مجرّد تقاسم مدروس للأدوار، إلى خلل أعمق في النظام القائم يتمثّل في وجود مراكز قرار خفية ترتقي إلى ما يشبه الدولة العميقة ذات الارتباطات التي تمتد خارج الحدود العراقية، ونحو طهران تحديدا، وهي المسؤولة فعلا عن اتّخاذ القرارات التنفيذية وتطبيقها على الأرض بغض النظر عن آراء وتصريحات السياسيين. ويؤكّد هؤلاء أن المسؤولين الحقيقيين عن قرار مواجهة المحتجّين بالعنف الشديد هم كبارُ قادة الميليشيات الشيعية المرتبطون مباشرة بالجنرال الإيراني قاسم سليماني الذي يتولّى قيادة فيلق القدس، وأن دور السياسيين ثانوي ولاحق على دور هؤلاء ويتلخّص في تبرير قراراتهم أو تلطيف الأجواء الناتجة عنها. وأكدت الرئاسات العراقية الثلاث، الأحد، رفضها لأي حل أمني للتظاهر السلمي، مشيرة إلى أن الاحتجاجات الشعبية السلمية هي حركة إصلاحية مشروعة لا بدّ منها. وجاء ذلك إثر اجتماع عقده رئيس الجمهورية برهم صالح في قصر السلام ببغداد وحضره كلّ من رئيس مجلس الوزراء عادل عبدالمهدي ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي ورئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان. خطاب سياسي منفصل عن الممارسات المطبقة على الأرض والمفروضة من قبل دولة عميقة ذات ارتباطات تمتد إلى خارج الحدود وأصدر المجتمعون بيانا أشاروا فيه إلى أنّ “الاحتجاج الشعبي الذي نهض به شبابُ العراق المتطلع لحياة حرة كريمة بإرادة وطنية سلمية تحترم السياقات القانونية والدستورية وتقدّر مصالح البلاد وتصونها هو احتجاج عظيم في مسار إعادة بناء الدولة وتطهير مؤسساتها والارتقاء ببنائها بما يستحقه العراق”. وأكدوا ما سمّوه “الموقف الثابت بالامتناع ورفض أي حل أمني للتظاهر السلمي، والمحاسبة الشديدة لأي مجابهة تعتمد العنف المفرط”، مشيرين إلى “أوامر وتوجيهات القائد العام للقوات المسلحة بمنع استخدام الرصاص الحي وجميع أشكال العنف التي تعتمد القسوة والمبالغ فيها”. ووفق البيان ذاته “تناول الاجتماع باهتمام شديد حالات الاختطاف التي تجري ضد ناشطين من قبل جماعات منفلتة وخارجة عن القانون، وكذلك جرائم الاعتداء على المتظاهرين، وهي أعمال موجهة يجري التحري عنها والوقوف على المتسببين فيها وإنزال العقاب القانوني بهم”. وأكدت الأطراف المجتمعة أنه لن يبقى معتقل واحد من المتظاهرين، وسيحال إلى القضاء كل من تثبت عليه جرائم جنائية، ومن أي طرف كان، وستلاحق العدالة الصارمة كل من يعتدي أو يخطف أو يعتقل أيّا كان خارج إطار القانون والسلطة القضائية. كما شدّدت على”أهمية حصر السلاح بيد الدولة”. ويأتي ما ورد في البيان متناقضا بشكل كلّي مع ما هو جار على الأرض. فلا السلاح محصور فعلا بيد الدولة، بل يوجد الكثير منه بيد ميليشيات تستخدمه في قمع المتظاهرين. ولا محاسبة قتلة المحتجين بصدد التنفيذ فعلا، ولا شلاّل الدمّ الذي رافق الاحتجاجات توقّف خلال موجة التظاهر الثانية التي بدأت في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي. وقالت مفوضية حقوق الإنسان العراقية التابعة للبرلمان، الأحد، إن حصيلة ضحايا الاحتجاجات تجاوزت الـ300 قتيل والـ15 ألف مصاب. ورغم موجة القمع تلك، يصرّ المحتجّون على الإبقاء على زخم احتجاجاتهم التي بات إسقاط النظام هدفا أساسيا لها. وتواصلت، الأحد، الاحتجاجات في العاصمة بغداد وفي البصرة الغنية بالنفط حيث فرضت قوات الأمن طوقا لمنع المتظاهرين من الاقتراب من مبنى مجلس المحافظة غداة موجة اعتقالات نفذتها بحق المحتجين، حسب ما نقله مراسلو وكالة فرانس برس. وفي مدينة الناصرية الواقعة كذلك في الجنوب، أطلقت قوات الأمن قنابل مسيلة للدموع على متظاهرين كانوا يحاولون إغلاق دائرة حكومية جديدة في إطار موجة العصيان المدني الذي أدى إلى شل عدد كبير من المؤسسات الحكومية. وتجددت في مدينة الديوانية احتجاجات طلابية في ظل انتشار قوات الشرطة قرب المدارس والكليات لمنع الطلبة من الانضمام إلى التظاهرات. كما بقيت المدارس والكليات وأغلب المؤسسات الحكومية مغلقة في مدينتي الحلة والكوت، وكلتاهما تقعان إلى الجنوب من بغداد. ودعت منظمة العفو الدولية السلطات العراقية إلى “إصدار أمر فوري بإنهاء الاستخدام المتواصل وغير القانوني للقوة المميتة”، ضد المتظاهرين. وورد في بيان عن المنظمة التي تعنى بحقوق الإنسان “يجب أن يتوقف حمام الدم هذا، ويجب محاكمة المسؤولين عنه”. وقال ناشطون وأطباء يشاركون في التظاهرات طالبين عدم الكشف عن أسمائهم، إنهم يشعرون بأن الخناق يضيق عليهم مع ملاحقتهم وتلقيهم تهديدات بالقتل عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو في قلب التظاهرات. ومن جهتها، أعلنت ممثلة الأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخرت، الأحد، أنها تتلقى “كل يوم معلومات عن متظاهرين قتلوا أو اختطفوا أو تعرضوا لاعتقال تعسفي أو الضرب والترهيب”. واستنكرت مناخ الخوف الذي تفرضه السلطات العراقية، مؤكدة أنّ “الحقوق الأساسية تنتهك باستمرار في العراق”. وتقدّم مثل هذه الضغوط الدولية تفسيرا إضافيا للخطاب “المعتدل” الذي تدلي به شخصيات سياسية عراقية كبيرة في إطار محاولتها إنقاذ صورتها في الخارج، وفي الغرب تحديدا، خصوصا وأنّ من الرؤساء من يحمل جنسيات بلدان غربية ويعلن الانفتاح على ثقافتها وقيمها.
مشاركة :