يبدو أن هدف إسكات البنادق في القارة الأفريقية مع حلول العام المقبل، الذي حدده القادة في الذكرى الخمسين عام 2013 لمنظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حاليا)، قارب على التحقق، حيث تم إعداد خارطة طريق مفصلة لوقف النزاعات. ومن يلقي نظرة سريعة عليها سيجد الكثير منها اختفى تماما أو في سبيله، بعد أن وضع مسؤولون على عاتقهم مهمة وقف المعارك، وهو ما ساهمت فيه بجدية مفوضية الاتحاد الأفريقي للأمن والسلم. أدت جهود متباينة إلى إخماد عدد معتبر من الأزمات الممتدة في منطقة شرق وغرب أفريقيا، وأصبحت الأولوية للتسوية السياسية في حل المشكلات الداخلية والبينية. ولم يكن السلام بين إثيوبيا وإريتريا، الذي تحقق بمعرفة دولتي الإمارات والسعودية قبل حوالي عام، استثناء في هذا المضمار، فقد توالت بعده سلسلة من الحوارات والمفاوضات والتطورات بغرض تحقيق السلام في بعض الأزمات المصيرية. حدث ذلك في السودان بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير مؤخرا، ويجري تطبيق المنهج ذاته حاليا بين السلطة الانتقالية في الخرطوم والجبهة الثورية التي تنضوي تحتها معظم الحركات المسلحة، بغرض التوصل إلى اتفاق سلام نهائي، يقود إلى استقرار شامل في جميع أنحاء البلاد، والتخلص من عبء الاقتتال الأهلي الذي ضرب مناطق عدة في السودان. تسير دولة جنوب السودان على الطريق نفسه، وقطعت المفاوضات بين الرئيس سيلفا كير ميارديت وعدوه اللدود ونائبه السابق رياك مشار شوطا مهما لتطبيق اتفاق أديس أبابا، ورغم انسداد الشرايين السياسية والتباعد الحاصل في الرؤى بين الطرفين، غير أن أحدهما لم يهدد بالعودة إلى الحرب مرة أخرى، أو لوّح برغبته في حسم المعركة بالآلة العسكرية. لم يعد طريق الحرب خيارا أوليا ونهائيا عند نشوب خلاف بين دولتين أو بين جماعتين أو أكثر، فأصوات طرق أبواب السلام تسمع في جميع أرجاء أفريقيا عندما تصاعدت حدة الخلافات بين مصر وإثيوبيا بسبب أزمة سد النهضة، ارتفعت حدة التجاذبات بين الجانبين، لكنها لم تستمر طويلا، وتم احتواء الكثير من مفرداتها بالأساليب الدبلوماسية، وأطفئ جزء معتبر من النيران التي أوشكت أن تحرق أصابع القيادة السياسية في البلدين، بعد أن لاحت في الأفق ملامح صدام لا يرغب حقيقة فيه كلاهما. نزعت القاهرة وأديس أبابا فتيل الأزمة، وبدت الاستجابة المشتركة للعودة إلى مائدة التفاوض عبر القناة الأميركية قبل أيام، إشارة على الابتعاد عن خيار المواجهة بأي ثمن، والبحث عن حل مناسب بالجلوس إلى طاولة المحادثات الفنية، ضمن سياق عام انتشر في المنطقة يدفع نحو منح التسوية الودية كل الفرص الممكنة، وعدم الذهاب إلى خيارات قاتمة تؤدي إلى مشكلات مضاعفة تتجاوز حدود المتخاصمين، في إقليم يشهد تطورات إيجابية في تفكيك أزماته السياسية والأمنية، ويميل إلى تشجيع المشروعات التنموية والتكاملية كوسيلة لوقف الحروب وضبط ما يترتب عليها من تداعيات. تمضي الخلافات الداخلية في كل من الصومال وجيبوتي وإريتريا وأوغندا وكينيا وإثيوبيا، بطيئة إزاء رفض الحلول الإقصائية، لأن ما جلبته من مشكلات تجذر وانعكس سلبا على العلاقات الإقليمية. ربما تستغرق العملية بعض الوقت، لكن من الضروري التهدئة كي يمكن جني ثمار اقتصادية واجتماعية وسياسية، تفضي إلى التخلص من إرث كبير من صراعات باتت عنوانا رئيسيا للمنطقة. وما يعزز التفاؤل أن الحروب بالوكالة تراجعت سخونتها، في ظل ما حدث من تفاهمات واتفاقات بشأن منع تسرب معارضي دولة إلى أخرى مجاورة. مرت دول القارة الأفريقية بصدامات شرسة عقب انتهاء فترة الاستعمار والتخلص من الفورة التي أشعلتها حركات التحرر الوطني، ودخلت غالبية الدول جنوب الصحراء في حروب طويلة، استنزفت جانبا كبيرا من المكونات الاقتصادية والموارد الطبيعية. ولا يزال عدد منها يعاني من ويلات المعارك بعد أن جذب جماعات متطرفة وجد من يقومون بتغذيتها فرصة للاستثمار، وأصروا على إبعاد المنطقة التي ينشطون فيها عن التهدئة، لأنها العدو الأول لفكرة توظيف الحروب لصالح أغراضهم المشبوهة، وهي الخطوة التي تحتاج إلى تحركات على مستويات عدة لتطويق الجهات التي بالغت في رعاية الإرهاب وذيوله. تؤكد التجارب السيئة للصراعات الأفريقية على وجود قناعة متزايدة لدى دول كثيرة أيقنت من عدم جدوى التوترات. وأصبحت تقود الدفة نحو بذل جهود كبيرة لجلب الأمن والهدوء والاستقرار، مصحوبة بإرادة قوية لتسوية الأزمات المستعصية. وتعد منطقة شرق أفريقيا واحدة من المناطق التي اِلتقت عندها الخبرة والقناعة والإرادة ووجدت دعما من خارجها. أصبحت الدول الكبرى مهتمة بوقف الصراعات في أفريقيا أكثر من ذي قبل، ففي أوقات سابقة كان التفكك والتشرذم والاحتقان مدخلها للسيطرة على الأمور. ومع تغير الأوضاع في القارة وتطور رؤية الجماهير وتشعب فروع الحداثة وتنوع المرامي السياسية والاقتصادية، رأت أهمية كبيرة في تحقيق الأمن كمدخل لحصد مكاسب أكبر، وأداة لقمع الحركات الشاردة، والحد من المجاعة والفقر ومشكلات النزوح واللاجئين. أيقنت القوى العالمية والإقليمية أنها لن تتمكن من زيادة الحضور في قارة أفريقيا وهي على حالها من التفسخ والتوترات. ضاعفت قوى كثيرة من تركيز أنظارها على القارة في السنوات الماضية، ومرجح أن تمضي في خطط أكثر طموحا مع تزايد السباق نحو الاستحواذ على جزء كبير من الكعكة الأفريقية، التي أصبحت كبيرة ولم تعد محصورة في الموارد الطبيعية المعروفة من نفط وغاز ومعادن مختلفة. فالقارة سوق بكر واعد لكثير من المنتجات التكنولوجية، وما يمكن تحقيقه من عوائد في مبيعات الموبايل والأقمار الصناعية وخدمات الإنترنت، يفوق بكثير المنتجات التقليدية. دخلت الصين، وتلتها الهند، وسرعت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا من وتيرة التحركات مؤخرا، لتثبيت أقدامها في ربوع القارة، ما يستوجب التكاتف الصريح والضمني لوقف الصراعات، وتشجيع القوى الإقليمية الطموحة على الانخراط في عمليات سلام مختلفة وعدم السماح لأي توتر بأن يتحول إلى أزمة متفاقمة، بما يؤدي إلى رسم معالم جديدة تمكن من منح فرصة للمشروعات التنموية المنفردة والمشتركة. انتهى، أو كاد، زمن الولاءات القبلية والمناطقية، التي تعتمد عليها القوى الكبرى لتحقيق مصالحها. وتراجع دور الانصياع لأمراء الحرب بعد أن كانوا قد تحولوا إلى قوة فوق الدولة والقانون. وأخذت الدول تبحث عن صيغة جادة للحكم الوطني تفتح الباب للسلام، بدليل أن الكثير من الشعوب تطالب بالتحضر وبالحرية والديمقراطية بالتوازي مع العدالة والرشادة، ووقف المشكلات الاقتصادية وما يترتب عليها من أزمات معقدة تشل المجتمع وتستنزف إمكانياته. لذلك توافقت دوائر داخلية وإقليمية ودولية على إسكات المدافع والسعي نحو السلام، كهدف إستراتيجي ينهي حقبا طويلة من النزاعات التي دفعت القارة الأفريقية فيها ثمنا باهظا. لم يعد طريق الحرب خيارا أوليا ونهائيا عند نشوب خلاف بين دولتين أو بين جماعتين أو أكثر، فأصوات طرق أبواب السلام تسمع في جميع أرجاء القارة.
مشاركة :