منذ الأيام الأولى لانتفاضة السابع عشر من أكتوبر، أعلن حزب الله وعلى لسان أمينه العام رفضه التام لمطالبها المعلنة في إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة من مستقلين قادرة على إنقاذ البلاد من مآلات السياسات الاقتصادية والمالية التي أوصلتها إلى الانهيار. وهو في ذلك وضع نفسه في مواجهة مفتوحة مع اللبنانيين. وكنّا شهدنا محاولات وأساليب حزب الله في مواجهة هذه الانتفاضة على مدى أسابيع، والتي تنوعت بين التشهير وإلصاق التهم الخبيثة بها وبث الشائعات وبين القمع المباشر للمتظاهرين في ساحات بيروت على أيدي شبيحة حزب الله وحركة أمل، وخصوصا في الجنوب والضاحية الجنوبية في محاولة لضبط الشارع الشيعي، الذي يعتبره حزب الله بمثابة حاضنته وبيئته وخزانه البشري، الذي لا يمكن له أن يستمر دون إطباق السيطرة التامة عليه. وهكذا بتنا نرى الضاحية الجنوبية لبيروت منفصلة تماما عمّا يدور حولها، وفي طول البلاد وعرضها من تظاهرات واعتصامات وقطع للطرقات. وقد وضعت على مداخلها نقاط لحزب الله وحركة أمل مهمتها مراقبة أبناء الضاحية ممن يشاركون في تظاهرات وسط بيروت والاعتداء على البعض منهم حين يعودون إلى الضاحية، إضافة إلى التهديدات المتواصلة عبر الوتسآب وسواه من وسائل التواصل والاتصال لكل ناشط أو متابع لحركة الانتفاضة. هناك عملية اختطاف حقيقية للضاحية الجنوبية لبيروت من قبل حزب الله. أما في الجنوب، فالملاحقات والتحريات وتشويه سمعة المشاركين بالانتفاضة مستمرة منذ الأيام الأولى. وقد سخّرت بعض أجهزة الدولة في ذلك تحت إشراف مباشر من قوى الأمر الواقع المسيطرة، أي حزب الله وحركة أمل. فبعد ثورة حقيقية شهدتها مدن وقرى الجنوب تم خلالها تمزيق وحرق وانتزاع صور نبيه برّي وحسن نصرالله في اليومين الأولين، صرنا نرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي أشرطة مصورة لناشطين يقدمون الاعتذارات لحسن نصرالله ولنبيه برّي. صحيح أن بعض الساحات المحدودة في النبطية وفي صور ظلت تشهد تظاهرات، أحيانا تكون واسعة، إلا أنها ظلت محدودة الشعارات بما لا يمس بالمباشر قوى الأمر الواقع المسيطرة هناك. ورغم ذلك فإن هذه الساحات لا تزال تتعرض للمضايقات والتحرشات والقمع، وصولا إلى إطلاق النار على خيم المتظاهرين في ساحة الاعتصام في صور إرهابا للمتظاهرين. يبدو أن شكل المواجهة الذي يعتمده نظام طهران مع اللبنانيين يشابه شكل المواجهة في العراق، حكومة تلتف حولها الأحزاب المؤيدة لطهران ومواجهات في الشارع تفضي إلى إنهاء الانتفاضة. فقد أثبتت الأحزاب العراقية المسيطرة على القرار السياسي في بغداد رضوخها التام لرغبة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني. فبعد أن كانت تطالب رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي بالاستقالة نزولا عند إرادة الشارع العراقي المنتفض، ها هي تعود، بعد لقاء مع سليماني لتؤكد على دعمها لرئيس الوزراء في البقاء في منصبه، بل ودعمها لجهوده من أجل وقف حركة الاحتجاج بكل السبل المتاحة، بما في ذلك استخدام القوة المفرطة للقضاء على الانتفاضة الشعبية المتواصلة منذ مطلع أكتوبر الماضي. وكما فعل سليماني في مواجهة انتفاضة العراقيين يحاول حزب الله مواجهة ثورة اللبنانيين، أي حشد القوى السياسية حول حكومة تلبّي شروطه، بحيث لا يبدو أنه قدّم أي تنازلات سياسية تحت ضغط الشارع. وعليه توجه “الخليلان” علي حسن خليل وزير المال في الحكومة المستقيلة والمستشار السياسي لنبيه برّي رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل، وعلي خليل المعاون السياسي لزعيم حزب الله حسن نصرالله، إلى بيت الوسط للقاء رئيس الوزراء المستقيل سعد الحريري لإقناعه بقبول تكليفه هو أو تسمية أحد سواه لرئاسة حكومة لا تستبعد في تشكيلتها نتائج الانتخابات الأخيرة، أي حكومة لا تختلف من حيث التكوين السياسي عن الحكومة التي أسقطتها ثورة الشارع. واضح أن سعد الحريري رفض مقترحات الخليلين، وأنه رأى في ذلك تعاميا عن مطالب الشارع في حكومة من مستقلين، تعيد الثقة بين السلطة والشعب، وتعيد ثقة الخارج بالسلطات اللبنانية. لكن الأهم هنا هذا الإصرار اللافت من قبل القوى المرتبطة عضويا بسياسات النظام الإيراني على السير تماما بخلاف إرادات الشعوب ومصالحها والتمسك بحكومات انفصلت تماما عن الواقع يديرها أكثر قوى الفساد افتضاحا أمام الجهات المحلية والدولية وبشهادة كل المنظمات الدولية المعنية بمراقبة الفساد. في وقت أوصلت هذه القوى المسيطرة على حكوماتنا بلداننا إلى الانهيار الشامل في كل مناحي الحياة. إنها المحاولات نفسها: في العراق رضخ التيار الصدري وتيار الحكمة لقرار قاسم سليماني بالتمسك بحكومة عادل عبدالمهدي ومنع سقوطها، وفي لبنان يحاول حزب الله إعادة سعد الحريري على رأس حكومة جديدة لا تختلف في شكلها ومضمونها عن الحكومة المستقيلة. في لبنان تستمر محاولات إعادة الطلاب إلى مدارسهم، وفي العراق تم الإعلان عن فتح المدارس والجامعات. في لبنان تستمر المحاولات لاستعادة الحياة الطبيعية رغم كل ما يحدث، فتح الطرقات والمؤسسات والإدارات، وفي العراق تحاول السلطات والقوى الرديفة فتح الجسور والطرقات تمهيدا لفض الاعتصامات المركزية واستعادة الحياة الطبيعية وكأن شيئا لم يكن. فهل يشهد لبنان تشكيل حكومة جديدة بشروط حزب الله، وبالتالي هل ستستخدم الأساليب نفسها لإخضاع الشارع؟ لا يمكننا الجزم بنجاح محاولات إيران في العراق، ولكن على اللبنانيين التنبه والبقاء في الشارع ورفض أي محاولة حكومية للالتفاف على مطلبهم الآني الملح: تشكيل حكومة مصغرة مستقلة بصلاحيات تشريعية استثنائية ومن أكفاء يتمتعون بالجرأة الكافية لمواجهة الوضعين الاقتصادي والمالي وفرض استقلالية القضاء وتطهيره والذهاب في محاربة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة حتى آخر الشوط، وإعداد قانون انتخابي يقصر ولاية مجلس النواب الحالي ويحقق عدالة التمثيل الشعبي، والذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة تعبّر عن التغيرات الكبرى التي أفرزتها ثورة السابع عشر من أكتوبر. ومما لا شك فيه أن الانهيار المالي والاقتصادي والنقدي المتواصل وانعكاساته المباشرة والمتسارعة على الوضع المعيشي للبنانيين وصولا إلى درجة الاختناق، سيكون له الدور الأبرز في استنهاض حركة الشارع وتأجيج الثورة حتى بلوغها مقاصدها. ولن يكون على حزب الله، الذي لم تستهدف هذه الثورة لا سلاحه ولا حتى مقاومته، بل حاولت منذ البدء وحتى الآن تحييده، إلا الرضوخ، لأنه وإن كان بمقدوره، كما قال زعيمه تأمين مرتبات عناصره، فإنه لن يكون بمقدوره تأمين الحاجات الحياتية لمجمل الطائفة الكبرى التي يحاول اختطافها. إن معالجة حقيقية للوضعين الاقتصادي والمالي وكذلك للوضع النقدي المتدهور، لن تكون إلا بالحجز على أموال السياسيين وأزلامهم وكبار المتعهدين، الذين أثروا على حساب المال العام وأغرقوا المالية العامة في الديون والعجز المدمر، وفي استخدام هذه الأموال في إعادة التعافي إلى المالية العامة وفي إنعاش القطاعات المنتجة، ريثما يبتّ القضاء المستقل بمصير هذه الثروات. إنه مأزق حزب الله الواقع بين تلبية شروط تبعيته لنظام مافيا الملالي في طهران من جهة وتلبية شروط بقائه كقوة سياسية وشعبية على الساحة اللبنانية، من جهة أخرى.
مشاركة :