مارلين سلوم في أي خانة تضع هذا الفيلم؟ عمل تتحمس له وتحبه قبل أن تذهب إلى السينما لمشاهدته، ولعدة أسباب: أولها أنه يحمل اسم جبران خليل جبران، الكاتب والشاعر والفيلسوف والرسام اللبناني، ويقدم إحدى أجمل مؤلفاته النبي. السبب الثاني، أن الفيلم من إنتاج النجمة سلمى حايك، ابنة الأرز أيضاً، والتي سعت إلى تحقيق حلمها من خلاله، وليبدو بصورة مشرفة لجبران ولها. سلمى التي حضرت إلى بشري مسقط رأس خليل جبران، وزارت بلدها من أجله لأول مرة، أطلقت الفيلم من لبنان إلى العالم، ونحن نشاهده اليوم في الصالات في الإمارات. تشوقنا لمشاهدة فيلم النبي Khalil Gibrans The Prophet منذ أن كان فكرة تسعى سلمى حايك إلى تنفيذها. وكان من الصعب تخيل النتيجة خصوصاً أن الفيلم يصنف من نوع الكرتون. أما بعد العرض، فالمشاهد تنتابه رغبة قوية من نوع آخر، وهي إعادة المشاهدة مرة ثانية وثالثة، من أجل المزيد من الاستمتاع بعمل مملوء بالإبداع الفني بمختلف مجالاته، من رسم إلى تحريك، إلى أبعاد فلسفية وروحانيات تجلت في كتابة جبران خليل جبران، إلى إتقان في الإخراج. لا شك أننا كنا نتمنى أن يولد عمل من هذا النوع من رحم الشرق ليكرّم عبقرياً حمل الشرق إلى الغرب فزرع فيه نبتاً طيباً ما زالت الأجيال تنهل منه خصوصاً في أمريكا حيث عاش جبران، وتكتشف أبعاد فكره وتتداول اسمه، سواء من خلال تدريس مؤلفاته في المدارس، أو عبر تخليد اسمه بحديقة كبرى فيها. إنما جاء التكريم من الغرب إلينا، ومن خلال النجمة العالمية سلمى حايك ابنة سامي حايك الذي هاجر إلى المكسيك وتزوج وعاش فيها. وبسبب هذه الأصول، تعرفت سلمى إلى النبي وهي طفلة من خلال جدها الذي كان يحتفظ بالكتاب قرب سريره، وحين كبرت قررت أن تقرأه بالإنجليزية لتفهمه. ثم تحول ولعها بالكتاب إلى حلم تحويله إلى فيلم سينمائي، أصرت على تحقيقه فكان لها النجاح. النبي فيلم مختلف، اجتمعت فيه إرادة مع عقول رأت في كلمات جبران أبعادها الفلسفية فحلقت معه بعيداً بإبداع متميز، كي تحمل المشاهدين من مقاعدهم في الصالات إلى عمق الوجدان، وكأنهم طيور تتنقل بين الفكرة والفكرة، وبين المشهد والمشهد. صحيح أن الفيلم لم ينخرط في سرب تقنيات الأبعاد الثلاثية، إلا أن مخرجيه الثمانية حملوا المشاهدين إلى أبعاد أعمق وغاصوا معهم في عمق الحياة وفلسفتها. لم يستوحوا من جبران الكلمات ومعانيها الفلسفية فقط، بل أخذوا من ريشته مدخلاً ليغمس كل مخرج ريشته وينطلق إلى رسوم تشرح وتجسد المعاني والقصص. من هنا جاء الفيلم بأبعاد فنية، تتطلب الكثير من الإتقان لتكون موصولة ونوعاً ما مبسطة يسهل فهمها من قبل كل الفئات والأعمار، خصوصاً أن الكتاب وضع فيه جبران خلاصة فلسفته في الحياة، في 26 حكمة يتوجه بها المصطفى إلى الناس الذين يتجمعون في مدينة أو جزيرة أورفليس ليسألوه عن شؤون مختلفة قبل أن يغادر عائداً إلى وطنه على متن السفينة. لكن المصطفى يبقى أسير أورفليس وتحلق روحه مبحرة نحو الوطن. المعروف أن أهل أورفليس يسألونه عن شؤون كثيرة في الحياة مثل الموت والزواج والمحبة.. وهو يجيبهم بحكم لو استطاع الإنسان أن يطبقها لاقترب من المثالية فتطغى الروحانيات على كل أفكاره وطريقة عيشه. والأهم أنه سيعرف طريق المحبة الحقيقية فينبذ العنف بكل أشكاله. وفي الكتاب تسأله ألمطرة غالبية الأسئلة. أما في الفيلم فنرى ألميترا طفلة صغيرة بكماء، تتصرف بعنف وتهرب من الناس وتسرق أشياء من السوق، والناس يطاردونها ويسخرون منها. وحده طائر النورس يفهمها وتحكي معه مقلدة صوته. أما والدتها كاملة فهي امرأة جميلة تربي ابنتها وتعمل في سجن ليس فيه إلا سجين واحد هو مصطفى، تهمته أنه شاعر يحبه الناس، وتعتبر السلطة العليا أنه يحرضهم على الثورة بأفكاره وكتاباته. يقررون الإفراج عنه بعد سبع سنوات من الأسر، شرط أن يوقّع على وثيقة يعترف بها أنه ضلل الناس، وأنه بريء من كل ما كتب، ثم يبحر على متن السفينة عائداً إلى وطنه. لكن الشاعر يرفض لأنه يرفض خيانة أفكاره، ولأنه يرى السجن الحقيقي في سجن الفكر لا الجسد. مصطفى شاعر ورسام كما كان جبران خليل جبران. بل نرى فيه هذه الصورة بوضوح في الفيلم. ومن قام بأخذ جزء من الكتاب لتحويله إلى فيلم مع إعادة كتابته سينمائياً، هو نفسه المخرج الذي تولى إدارة هذه السمفونية الرائعة بمهارة عالية، روجر آلرز مخرج أجمل أفلام الكرتون ليون كينج Lion King والجميلة والوحش وعلاء الدين Aladin. ساعده في الكتابة هانا ويغ ودوغلاس وود. آلرز اختار أن يقدم نماذج في القرية تقترب من واقع جبران الحقيقي، حيث استعار حالة والدة الشاعر والتي كان اسمها كاملة وسبق لها أن تزوجت من رجل قبل زواجها بوالد جبران، وسافرت معه إلى أمريكا حيث أنجبت طفلاً، لكن زوجها توفي سريعاً فعادت إلى لبنان مع طفلها، ثم تزوجت خليل جبران.. وهي من أوصلت ابنها جبران إلى أمريكا حيث حملت أطفالها ورحلت إليها مجدداً وهم بعد صغاراً. في الفيلم تبدو كاملة أماً لألميترا، التي تأثرت بوفاة والدها المبكرة فالتزمت الصمت رافضة التحدث مع أي كان.. إلى أن التقت بمصطفى فخاطب روحها، وبفضلها خرجت من أزمتها. ثماني حِكم فقط يتناولها الفيلم، وكل حكمة نفذها مخرج وجميعهم من أشهر مخرجي الأنيمايشن أو التحريك عالمياً، ومن بينهم الإماراتي محمد سعيد حارب الذي أخرج حكمة الخير والشر، بينما عمل مايل سوتشا على الحرية، ونينا بالي الأولاد، وجوان سفار الزواج، وجوان غراتز العمل سبق أن فازت بأوسكار أفضل فيلم أنيمايشن قصير موناليزا ، وبيل بلايمبتون الغذاء والشرب، وطوم مور الحب، وبول وغايتن بريزي الموت. تلك اللوحات استمدت من كلمات ورسومات جبران الوحي، فانطلق منها كل مخرج نحو عالم من الخيال الرائع. تقنيات حديثة خدمت الفكرة، فجاءت اللوحات بسيطة وعميقة، خطوطها توحي برسم طفولي وسريالي، وكل الرسوم تشعر أنها وليدة ريشة رسام واحد. ننسى أن الفيلم بكامله هو قائم على الرسوم، واللوحات تتجسد فيها روح الشرق ونرى فيها القرية اللبنانية والسوق العتيق، والأسماء العربية: حليم، كاملة.. الموسيقى أيضاً تعبق بسحر الشرق وقد شارك في وضعها الموسيقي اللبناني العالمي غابريال يارد الشهير في عالمي السينما الأمريكية والفرنسية والفائز بأوسكار عن موسيقى فيلم المريض الإنجليزي عام 1996. يارد قال إن سلمى حايك أعادته إلى لبنان، وتحمس لفكرة الفيلم كثيراً. أسماء النجوم لم تقتصر على العاملين الفنيين والتقنيين، بل ضمت مجموعة إلى لائحة الممثلين الذين منحوا أصواتهم للشخصيات في الفيلم. سلمى حايك هي كاملة، وليام نيسون هو مصطفى. الطفلة كوينزانيه واليس هي الصغيرة المشاغبة ألميترا، وألفرد مولينا هو مسؤول السجن. صحيح أن اللغة الأصلية للفيلم هي الإنجليزية، والأغاني بعضها يمزج بين الغرب والشرق بإيقاعاته، لكننا نشعر بأن هذه اللغة وكل النجوم العاملين في الفيلم إنما التقوا لخدمة النبي وجبران خليل جبران ولتكريم مبدع من شرقنا، من لبنان. ومثلما أعادت سلمى حايك الكبير جبران خليل جبران ليكون على كل لسان وليدخل عالم السينما فيتلقفه الكبار والصغار، ويدخل أيضاً أبواب المهرجانات العالمية مثل كان وغيرها، فالكل مدعو للمشاركة في هذا الانتشار وفي إحياء الأدباء في السينما، علنا نعيد تقديمهم للأجيال الجديدة بشكل راق لا يخلو من الإبداع الذي يليق بالكبار.
مشاركة :