حين اتفقت الغالبية في مصر على أن مواجهة الإرهاب هي الهدف الأسمى في المرحلة التي أعقبت الإطاحة بنظام حكم الإخوان، غابت السياسة عن أذهان الكثير من المصريين. غير أن غيابها استمر طويلا، بل إن الاستحقاقات الانتخابية التي جرت لاحقا لم تظهر فيها الممارسة السياسية بشكلها الطبيعي، ما جعل محاولات استعادة الزخم بعد مظاهرات محدودة اندلعت في سبتمبر الماضي محاطة بالعديد من الأزمات، فالبعض اعتبرها بداية لانفراجة جديدة، وآخرون قالوا إنها لن تغير كثيرا في معالم المشهد. ما أقدم عليه أحمد الطنطاوي النائب البرلماني المعارض مؤخرا، بإعلانه عن مبادرة سياسية وصفها بـ”الإصلاحية”، قوبل بردة فعل عنيفة من قبل رئيس مجلس النواب، واتخذ قرارا بإحالته إلى لجنة القيم، ربما تمهيدا للتفكير في الإطاحة به خارج البرلمان، الأمر الذي يعبر عن جوهر الأزمة السياسية التي ترفض تقبل أي رأي معارض. يؤكد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي انفتاحه على جميع القوى السياسية الوطنية، ولا يمانع في ممارسة حقها في التعبير والحركة وسط الجماهير، طالما ملتزمة بالقانون، بينما هناك أجهزة ومؤسسات لها تفسيرات مختلفة، بما أصاب الحياة السياسية بالركود. ويبدو أن الطنطاوي تجاوب مع نداء السيسي بتفعيل البرلمان لدوره الرقابي ومعارضة الحكومة ومحاسبتها على كل خطأ تقع فيه وطرح مبادرته، غير أن الطريقة التي عومل بها في البرلمان تسير في اتجاه آخر، وتؤثر سلبا على الخطوات التي يقوم بها الرئيس المصري، وكأن مجلس النواب يريد أن يظل ملتصقا بالحكومة ولا يخضعها لرقابة، أو يتقبل مبادرات. وتعرض النائب الذي ينتمي إلى تحالف “25 – 30” المعارض إلى انتقادات حادة من مؤيدي الحكومة الذين صعدوا الموقف باتجاه اتهامه بـقلب نظام الحكم، ما يساعده في أن يصبح قائدا للمعارضة، مستفيدا من ارتفاع صوتها الفترة الماضية عبر وسائل إعلام رسمية أتاحت لها الكلام بقدر كبير من الحرية. الحكومة تجد صعوبات في تحديد شكل الإصلاح المطلوب، وألمحت إليه مصادر قريبة من دواليبها مؤخرا، وتعتقد المعارضة أن الحكومة غير قادرة على اتخاذ خطوات حقيقية في هذا المجال، الأمر الذي وضع الطرفين في مأزق شديد، فلا سفينة الإصلاح قادرة على الحركة بسرعة، كما أنها لن تستطيع التوقف تماما. إذا كانت مشكلة الحكومة واضحة إلى حد كبير في الخمول والتقاعس، فالمعارضة التي يمثلها الطنطاوي ترفع من مستوى الأمنيات بصورة تجعلها قابعة في مكانها وغير قادرة على الحركة بمرونة، وهو يجسد مأزقها بشأن المبالغة في الطموحات السياسية، وتقديم مطالب غير منطقية قد لا تتوافق المعارضة عليها. ويبدو مطلب إلغاء التعديلات الدستورية الأخيرة، وما ترتب عليها الذي طرحه الطنطاوي في مبادرته، معبرا عن حالة ثورية وليس إصلاحا سياسيا، ويرفع مستوى التوتر بدلا من تهدئته. نشر الطنطاوي على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، فيديو لمدة ساعة ونصف الساعة، حوى جملة من النقاط الهامة التي تشكل جوهر الإصلاح السياسي والاجتماعي، لأنه دعا إلى تشكيل 12 لجنة برلمانية، تستهدف إحداث حالة من الحوار الوطني لحل المشكلات التي تواجهها البلاد. يتفق البعض من السياسيين على أن الطنطاوي ما زال في مرحلة مراهقة سياسية، فحينما أقدم على نشر الفيديو الأخير لم يستفد من أخطاء المعارضة السابقة، ولم يذهب لتوجيه خطاب عقلاني يقنع الجمهور قبل أن يقنع السلطة بالنظر إلى ما يطالب به، وأعده بشكل منفصل عن باقي القوى السياسية التي غلبت على مواقفها الأخيرة الفردية وغاب عنها التنسيق. الشك في الدولة منحت تصرفات طنطاوي للحكومة المبرر الكافي للتعامل مع مطالبه بقدر وافر من التشدد، خشية أن تكون هناك أهداف خفية. الأمر الذي تكشفت ملامحه عبر التصريحات التي أطلقها علي عبدالعال رئيس مجلس النواب، وذهب فيها للتأكيد أنه “لا مكان لمن يشكك في شرعية المسؤولين في مصر عموما، وعليه أن يذهب إلى بلد آخر”. شكك الطنطاوي في جميع مؤسسات الدولة بما فيها السلطة القضائية، ما يعني خروجه أساسا من إطار الإجماع الوطني لصالح تنبي رؤية يعتبرها البعض أقرب إلى أفكار تنظيم الإخوان، حيث اشتملت المبادرة على إعادة هيكلة وزارة الداخلية، وهو المطلب الذي كان يردده أعضاء التنظيم باستمرار منذ الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك. لدى الطنطاوي قناعات ناصرية كبيرة، وهو أبعد ما يكون عن الإخوان، لكن ما يطرحه من مبادرات قد يصب في صالح الجماعة عن غير قصد، من خلال التلاقي الضمني بين أهداف المعارضة المصرية وجماعة الإخوان. هذه واحدة من دواعي مأزق المعارضة في مصر، خاصة أن الطنطاوي كان ضمن 100 شخصية خاطبها أيمن نور، السياسي المعارض من تركيا والقريب من الإخوان، في شهر أبريل الماضي، لتشكيل ما أسماه بجبهة “إنقاذ مصر وتكوين بديل وطني مقبول داخليا وخارجيا”، وهو ما لقي رفضا واسعا في مصر. يرفض الطنطاوي أن تكون مواجهة الإرهاب سببا في إغلاق المجال العام، وقد لا يجد غضاضة في الحوار مع جماعة الإخوان، الأمر الذي يجعله هدفا دائما من قبل النواب المحسوبين على الحكومة، وسعيهم لتأجيل الانفتاح السياسي خوفا من تسلل الإخوان عبر نوافذه، ويقينهم أن ما يجري تسويقه من جانب المعارضة يرمي إلى توسيع نطاق الحريات ولا يعبر عن معارضة وطنية، وقد تتداخل معه بعض الأهداف الخارجية التي تستغل أي انفراج سياسي لإنقاذ تنظيم الإخوان من عزلته. التقت القنوات الفضائية التابعة لجماعة الإخوان فيديو الطنطاوي الأخير، وجرى تسويقه على أنه يعبر عن موقف موحد للمعارضة، راغبا في العودة إلى ما قبل إجراء التعديلات الدستورية، لذلك لم تكن مبادرته محل تأييد محلي، لأن الغرض الرئيسي للإصلاح المنشود الذهاب إلى الأمام وليس العودة خطوات إلى الخلف. تأييد الإخوان للمبادرة، كان يستوجب أن يخرج الطنطاوي للرأي العام ويعلن موقفه بشكل صريح منه، غير أنه لم يفعل ذلك، ما خصم من رصيده الوطني، لأن الحكومة تردد أنها ليس لديها مانع من وجود معارضة غير مرتبطة بتنظيمات إرهابية، على غرار الإخوان، تحاول على مدار السنوات الماضية جر البلاد لمستنقع الفوضى. أكد الطنطاوي أنه يرفض نغمة العمل السياسي لصالح الإخوان بأي صورة، وقال في تصريح لـ”العرب”، “لا يحنو رأسه إلا صاحب خطيئة، لن أعطي لهم الفرصة، أو أتراجع عن الطريق الذي مشيت فيه، كرامتي دونها رقبتي قبل عضويتي، كرامتي معناها أداء دوري النيابي على الوجه الذي يرضي ضميري تجاه الناخبين، وإما أكون برلمانيا على الوجه الأمثل أو لا أكون”. على مقعد المعارضة معرفة المصريين بالطنطاوي تبقى محدودة، اقتصرت على لقاءاته التلفزيونية التي اعتاد الظهور فيها كضيف دائم على كرسي المعارضة، عندما كانت بعض البرامج تستضيف وجهتي النظر في أي قضية. وما إن انتشر فيديو خاص به في أثناء مناقشة البرلمان للتعديلات الدستورية في أبريل الماضي، حتى تحوّل إلى معارض معروف وراجت العديد من مقاطع الفيديو التي أضحت كمتنفس للمواطنين الذين يعانون صعوبات اقتصادية واجتماعية عدة. اعتاد الرجل منذ دخول البرلمان قبل نحو أربع سنوات أن يكون نائبا مشاكسا، يرفض أن يتحسس خطواته عند الخوض في أيّ قضية شائكة أو معركة جانبية، وفي كل مناسبة يتحدث بطريقة جريئة جعلته يصنّف كأحد أبرز المغضوب عليهم، ما تسبّب في أن يخلق لنفسه جملة من العداوات داخل وخارج مجلس النواب. ويظل البرلماني الشاب، من أكثر النواب الذين أحيلوا إلى لجنة القيم، وجرى التحقيق معه مرارا، بسبب مواقفه وآرائه التي تصنف من جانب هيئة مكتب مجلس النواب وائتلاف الأغلبية، بأنها خارج المألوف، وتتجاوز الخطوط الحمراء وتثير الرأي العام، بل وتشوه صورة البرلمان أمام الشارع. لم يكن انضمامه إلى صفوف المعارضة داخل مجلس النواب مصادفة، وشرح ذلك بالقول “المعارضة فرضت عليّ، بمعنى أنني لم أخترها، فمثلا لو ذهبت لبرلمان أغلبيته توفر قناعاتي وتنتصر لأفكاري المتمثلة في العيش والحرية والعدالة وترجمت ذلك بشكل عملي، كنت سأنضم إليها، لكن فرضت علينا أغلبية أداؤها غير مقنع ومخيب للآمال، فكان لزاما على كل برلماني يحترم ذاته والناس أن يتصدى لهؤلاء”. بدأت النشأة السياسية للطنطاوي من حزب الكرامة في العام 2005، باعتباره أحد المؤسسين له، وانعكست كثيرا على تصرفاته، وتبدو بعض تصرفاته داخل البرلمان قريبة من حمدين صباحي، المرشح الرئاسي الأسبق، أو نسخة حديثة منه بعد أن خفت صوته حاليا وأصبح معبرا عن عهد بائد. حصل الطنطاوي على درجة الماجستير في العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ودخل البرلمان وهو يمتلك قدرا وفيرا من المعرفة والثقافة والوعي الذي يؤهله لممارسة أصول العمل السياسي والتشريعي والرقابي، وفهم آلية التعامل مع الحكومة. وبالرغم من تأكيده على أنه تعلم “إدارة الاختلافات من وجوده الدائم وسط التجمعات البشرية مختلفة الأفكار والتوجهات والرؤى”، غير أن سعيه لأن يصبح المعارض دائما لكل شيء دفعه إلى الاستقالة من حزب الكرامة في مارس من العام 2014، لموقفه الرافض من مشاركة صباحي كمرشح أمام الرئيس عبدالفتاح السيسي، معتبرا الأمر مجرد “مسرحية سياسية”. لم يرث المعارض المصري نهجه السياسي عن أسرته، فهو ينتمي إلى عائلة من الطبقة المتوسطة ووالده من أبناء القوات المسلحة، ولا يوجد بين أفرادها شخصية بارزة تركت بصمة في العمل المعارض، لكن سماته الشخصية وامتلاكه قدرات كبيرة في إدارة الحوار والتعامل معه باعتباره أحد أبناء تيار الشباب في ثورة يناير، من العوامل التي دفعته لأن يصبح نائب المعارضة الأبرز داخل البرلمان. ثوري راديكالي يحسب الطنطاوي على المدرسة الثورية-الراديكالية، وتقريبا هو الشاب الوحيد داخل مجلس النواب الذي خاض معارك ضارية بسبب تجاهل البرلمان أهداف ومطالب الثورة، وعلى رأسها العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وهو على قناعة بأن هناك تصفية متعمدة لهذا التيار، ما انعكس على أسلوب خطابه داخل البرلمان الذي لا يخلو من عصبية وصوت مرتفع باعتبار أن ذلك السبيل الأوحد لتوصيل رؤيته للجميع. يقول “يحزنني أن أكون وحدي ابن ثورة يناير الذي يحارب أغلبية تخطط لاحتكار السلطة داخل مجلس النواب، وهذه أزمة البرلمان الحقيقية، فهو في وضع معكوس، فهناك أغلبية برلمانية تعبر عن رأي أقلية جماهيرية، بعكس كل ما نادت به الثورة، والنتيجة المنطقية أن يصبح البرلمان مغضوبا عليه شعبيا”. ويتابع “الوضع الصحيح أن الأغلبية انعكاس للإرادة الشعبية الحقيقية، لكن ميزة هذه التجربة البرلمانية المحبطة للشارع، أن المصريين قيّموها وحكموا عليها بالفشل، وهذا يؤهلهم ويحفزهم على حسن الاختيار في المرات المقبلة.. سوف تشهد السنوات القليلة القادمة تغيرات جذرية في تركيبة السلطة وعلاقة الشعب بها، لأن الوضع الراهن من الصعوبة أن يستمر طويلا”. نقطة الخلاف بين الطنطاوي ودوائر الحكم، أن لديه يقينا راسخا بأن الحكومة تجاهد لتجفيف منابع تدفق الدماء في شرايين الحياة السياسية، بحيث يكون الشارع بعيدا عن نظام الحكم، مع دفع الشباب إلى الخروج من المعادلة. وبالنظر إلى تسلسل الأحداث منذ الإطاحة بنظام مبارك فإن شباب ثورة يناير أنفسهم لم يتفقوا على موقف محدد في الكثير من المحطات السياسية، ما جعل النائب البرلماني يعاني من نفس مشكلات هذا الجيل، ولا يهمه ماذا يرتدي داخل البرلمان، وأحيانا يذهب بملابس كاجوال، ويرى أن وجهة نظره هي الصحيحة فقط.
مشاركة :