الأنظمة الغذائية السيئة تدفع الناس إلى هوة الجنون

  • 11/12/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يربط الخبراء عادة بين الأمراض العقلية والتاريخ العائلي للمصابين بها، لكن على الرغم من أنه لا يمكن نفي العامل الجيني ودوره في الإصابة بالاختلافات النفسية والعقلية، فإن النتائج التي توصلت إليها الأبحاث الحديثة، تقدم دليلا قويا على أن إحداث تغيير بسيط في نوع الطعام الذي يتناوله الشخص، يمكن أن يساهم في تحسين القدرة العقلية. ويسود اعتقاد لدى العرب منذ عصور ما قبل الإسلام، بأن الجنون قد يكون ناتجا عن نقص في مواد غذائية بعينها، غير أن الخبراء قد تمكنوا أخيرا، وبعد عقود طويلة من البحث من اكتشاف علاقة أساسية بين طبيعة ونوع الغذاء وأعراض العديد من الأمراض مثل الفصام والاكتئاب والقلق والهلع. ويعاني حوالي 13 بالمئة من سكان العالم، أي ما يساوي 971 مليون شخص، نوعا من الاضطرابات العقلية، وفقا لمعهد القياسات والتقييم في المجال الصحي، لكن الرقم قد يكون أكثر من ذلك بكثير، غير أن الوصمة الاجتماعية التي ما زالت تحيط بهذه الأمراض تحول دون أن يطلب المصابون بها المساعدة، وهذا ما يمنعهم من تلقي العلاج المطلوب، كما أن الكثير من الناس يمكن أن يعانوا من أكثر من اضطراب في نفس الوقت. وتشير مؤسسة “مايند” الخيرية البريطانية إلى إحصائية مفادها أن واحدا من بين كل أربعة أشخاص سيعاني من صورة من صور الأمراض العقلية في عام أو في آخر. وهناك خليط من العوامل التي تؤدي إلى الإصابة بالأمراض العقلية، غير أن العديد من الدراسات أثبتت مدى تأثير الأغذية على عقل الإنسان إيجابا أو سلبا، لكن ربما كان الجزم بأثرها على الصحة العقلية هو الأصعب، فكيف يمكن أن تؤثر الأنظمة الغذائية في عقول الناس؟ نوعية الأغذية من المعروف أن نوعية الأغذية التي يتناولها الناس تلعب دورا أساسيا بالنسبة إلى الحالة الصحية للجسم بشكل عام، ومن المهم اتباع نظام غذائي غني ومتنوع ليلبي كافة احتياجات الجسم من الفيتامينات والبروتينات اللازمة لبناء الطاقة التي نحتاجها لأداء المهام اليومية والتمتع بصحة جيدة. وهناك أيضا العديد من العلاقات المعقدة بين أنساق الغذاء والصحة العقلية، فالمواد الكيميائية التي تقوم بنقل الإيعازات العصبية تتأثر كثيرا بنوع الغذاء الذي يتناوله الشخص، لذلك فإن نقص بعض الفيتامينات والمواد المعدنية والحوامض الشحمية يمكن أن يترك تأثيرات كبيرة على المزاج والصحة العقلية، مثل ظهور أعراض داء الفصام عند حصول نقص في فيتامين بي. وتقول الباحثة كاميل لاسال، التي أجرت تحليلات لدراسات سابقة مع زملائها في كلية كوليدج لندن، إن الأدلة تشير إلى فكرة أن الأطعمة التي يتناولها الناس يمكن أن تحدث فرقا في خفض خطر الاكتئاب، على الرغم من عدم وجود دليل إكلينيكي قوي حتى الآن. وفي عام 2018 قامت دراسة أجراها مركز الغذاء والمزاج بجامعة ديكين الأسترالية، بفحص 67 شخصا للحصول على فكرة أفضل عن العلاقة بين ما يتناوله الناس وصحتهم العقلية. وأثناء عملية البحث حافظ البعض من المشاركين في الدراسة على نظامهم الغذائي غير الصحي النموذجي، ولكنهم تلقوا علاجا إضافيا، بينما تناول آخرون نظاما غذائيا غنيا بالمكسرات والبذور والبيض والفواكه والخضار وزيت الزيتون البكر الممتاز، ولحوم الأبقار، وكان جميع المشاركين في الدراسة يتناولون مضادات الاكتئاب، أو يخضعون للعلاج النفسي، أو مزيج من الأدوية والعلاج. وبعد 3 أشهر، لم تعد نسبة 32 بالمئة من الأشخاص الذين اتبعوا نظاما غذائيا صحيا يعانون من الاكتئاب. فقد تحققت لدى 8 بالمئة من الأشخاص الذين تلقوا الدعم الاجتماعي دون تدخل غذائي، النتائج ذاتها. وقالت هيذر فرانسيس، عالمة نفس بجامعة ماكواري الأسترالية والمؤلفة الرئيسية للدراسة إن التجربة التي أجريت بجامعة ديكين الأسترالية كانت تركز على البالغين الأكبر سنا، في حين أن نتائج دراستها قدمت “دليلا على أن الشباب البالغين يمكنهم أيضا الاستفادة من هذا النوع من التدخل”. وأكدت فرانسيس أن توصيات النظام الغذائي المقدمة في الدراسة “كانت متواضعة ولا تنطوي على تقييد استهلاك الطاقة أو كمية الطعام الذي يتم تناوله”، موضحة أن الأطعمة لا يجب أن تكون باهظة الثمن أو تتطلب وقتا طويلا لإعدادها. ورأت أنه “بدلا من محاولة الالتزام بأنظمة غذائية بدائية مقيدة بشكل مفرط وغير مجدية على المدى الطويل، فمن المفيد معرفة أن إجراء هذه التغييرات المتواضعة على ما يتناوله المصاب قد يكون له تأثير حقيقي وقابل للقياس على الصحة العقلية”. طعام البحر المتوسط وفي السنوات الأخيرة ركزت مجموعة من الأبحاث على ما يعرف بـ”طعام البحر المتوسط”، ويقصد به نمط الغذاء الغني بالخضروات والفاكهة والمأكولات البحرية والدهون غير المشبعة والزيوت النباتية. ووجدت دراسة في إسبانيا أن الذين يتناولون طعام البحر المتوسط التقليدي تقل لديهم احتمالات الإصابة بالاكتئاب على مدار أربع سنوات بنسبة النصف تقريبا. وتقول فليتشي ياكا، طبيبة نفسية وخبيرة تغذية بجامعة ديكين الأسترالية ومؤلفة كتاب “كيف تغير دماغك: غذاء الصحة العقلية”، إن الأدلة على أهمية الغذاء للصحة العقلية والمخ “باتت كثيرة ومتسقة”. وثبت علميا أن طعام دول حوض البحر الأبيض المتوسط يزيد في بيئة الأمعاء البكتيرية تنوعا ويقلل من التغيرات الفسيولوجية الأخرى التي تبدو مصاحبة للاكتئاب. وافترضت دراسة بريطانية سابقة أنه من الممكن أن يكون تغير النظام الغذائي في السنوات الخمسين الأخيرة قد أثر بشكل أساسي في ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض العقلية. ونوهت منظمة الصحة العقلية في بريطانيا إلى أن الأطعمة التي تصنع حاليا قد أثرت في توازن الأغذية التي يتناولها الناس، إذ بات على سبيل المثال سكان بريطانيا يأكلون الطعام الطازج بنسبة أقل بكثير من السابق فيما ازداد استهلاك الدهون المشبعة والسكريات. وبحسب الدراسة، فإن هذا النظام الغذائي الجديد يتسبب بحالات الانهيار العصبي وبمشاكل في الذاكرة. غير أن خبراء الغذاء قالوا إن الأبحاث لا تزال غير نهائية وإن نتائجها ليست حاسمة. معالجة المشكلات العقلية من خلال تعديل النظام الغذائي، أثبتت في بعض الحالات فعاليتها أكثر من المسكنات والعقاقير وقد أعلن مدير منظمة الصحة العقلية في بريطانيا أن معالجة المشكلات العقلية من خلال تعديل النظام الغذائي، أثبتت في بعض الحالات فعاليتها أكثر من المسكنات والعقاقير. وتشرح الدراسة التي صدرت بعنوان “تغذية العقول” كيفية تغير التوازن الغذائي الطبيعي القائم على المعادن والفيتامينات والدهون الأساسية في السنوات الخمسين الأخيرة. ويعتبر الباحثون أن انتشار المزارع الصناعية أدخل المبيدات بقوة ما أدّى إلى تعديل بنية الدهون عند الحيوانات بسبب الأغذية التي تتغذى عليها. وتورد الدراسة على سبيل المثال أن الدواجن باتت تسمن بسرعة مضاعفة عن تلك التي كانت تلزمها منذ ثلاثين عاما لبلوغ وزنها الأقصى، ما يؤدي إلى ارتفاع الدهون من 2 في المئة إلى 22 في المئة. ومن ناحية أخرى، أوضحت الدراسة أن الاستهلاك الزائد للدهون المشبعة بسبب انتشار الوجبات السريعة، يبطئ عمل الدماغ. وأشارت الدراسة إلى أن استهلاك الخضار انخفض بنسبة 34 في المئة، فيما انخفض تناول الأسماك بنسبة الثلثين عما كانت عليه منذ خمسين عاما. والمعروف أن الأسماك تحتوي على الحامض الدهني أوميغا-3 الحيوي لسلامة العقل. وبالتالي فقد تكون هذه التغييرات في النظام الغذائي مرتبطة بأمراض انفصام الشخصية والانهيارات العصبية والزهايمر. وقد دعت الدراسة إلى تنظيم حملات توعية تحث الناس على تناول المزيد من الخضار الطازجة والفواكه والسمك. لكن الخبر السار هو أن غذاء العقل الصحي هو نفسه غذاء الجسم الصحي. أما الخبر السيء فهو أنه في حال لم يتمّ تعديل السياسات الغذائية والزراعية بشكل جذري وشامل، فلن تتوافر في المستقبل أطعمة مغذية ومفيدة. ويقول ستيفن باكلي، ناشط في منظمة “مايند” الخيرية للصحة النفسية، إن تناول وجبات صحية والقيام بنشاط بدني منتظم وخفض السكر والكافيين والكحول، من النصائح الغذائية المهمة. وأوضح باكلي أنه في حال كان الإنسان يعاني من الاكتئاب أو القلق يكون من الصعب عليه التركيز على صحته، وقد يلجأ إلى استراتيجيات مواجهة غير مفيدة، مثل تعاطي المخدرات أو تناول الكحول. ويبدو أنه وبعد أكثر من قرن ما زال العالم بعيدا عن التوصل إلى علاج نهائي للاكتئاب، لكن قد يجد البعض، إن لم يكن الكل، أن العقل السليم -والسعيد- في الطعام السليم.

مشاركة :