عزيزي عاشق السينما، هاوي السينما، السينيفلي، الناقد الشاب، المهووس بالأفلام، أودّ أن أخاطبك مباشرة من خلال هذا المقال.صحيح أن الناقد يقدّم رؤيته للعمل، ولكن من داخل العمل لا من خارجه. وهو كما كتبت من قبل، يخلق نصا موازيا للفيلم نفسه يمكن الاستمتاع به بمفرده كما يتيح فرصة الاستمتاع بالفيلم أكثر لو أعدت مشاهدته في ضوء المقال النقدي الذي قرأته واستوعبته.. شريطة أن تكون قد أكملت القراءة بالطبع! لهذا كله فتحليل الفيلم من حيث هو بناء درامي وشخصيات ودوافع وعلاقات، في سياق سرد محدد أو حبكة، هو من أساسيات النقد السينمائي. وعندما يستعرض الناقد قصة الفيلم أو بناءه الدرامي فهو لا يروي قصص الأفلام بل يحلل ويقدّم لك الفيلم كما استقبله هو بذهنه، من دون أن يحرق لك الأحداث كلما أمكن، ولكن في أحيان كثيرة يكون حرق الأحداث مهمّا في سياق التحليل ومعرفة مدى توفيق صانع الفيلم في التعامل دراميا مع موضوعه. وخلال التعامل مع سياق السرد يحلّل الناقد العلاقات والشخصيات والبناء ومدى استقامته وكلها عناصر شديدة الأهمية. لكنه لن يتوقّف أمام “الاستخدام الدرامي للألوان” إذا كانت الألوان موجودة فقط لإضفاء الواقعية على الصورة وليس لأي هدف آخر. لدرجة أنك لا تلاحظها غالبا. وربما ستلاحظ أكثر وتنتبه إذا استخدم المخرج الأبيض والأسود في بعض اللقطات. رجاء التواضع قليلا في التعامل مع النقد ومع السينما، والكفّ عن توقّع أن تأتي كل الأفلام على غرار أفلام غودار وفيلليني وروي أندرسون وخودوروفسكي وبازوليني وتارانتينو. ولا تنسى أن مستوى الفيلم هو الذي يحدّد مستوى النقد في النهاية. صحيح أن الفيلم ليس مجرد قصة أو سرد أدبي يمكن تلخيصه عند تحليل الفيلم. وصحيح أن السينما فن يقوم أساسا على فنون الصورة. لكنها أيضا تستخدم الأصوات: الحوار، المؤثرات الصوتية، الموسيقى.. إلخ. لذلك أرجو ألاّ تشغل نفسك كثيرا بهذه الفكرة، فكرة أن السينما صورة فقط، بحيث تصبح عبدا خاضعا لها ترفض كل ما عداها وتطالب دائما وأبدا كل من يكتب عن الأفلام، أن يتوقّف أمام الصورة: زاوية الكاميرا وتكوين اللقطات واستخدام الألوان ودلالات الصورة وحجم اللقطة، وحركة الكاميرا.. إلخ. فليست كل الأفلام يمكن أن تتوقف فيها أمام كل هذه العناصر، لأن معظم صناع الأفلام يستخدمون هذه العناصر وأهمها بالطبع المونتاج، لمجرد ضمان تدفّق وسلاسة ووضوح السرد ومنطقية تداعي الأحداث والوصول للحبكة. وكثيرا ما تنتقل الكاميرا بين الأشخاص لكي تبرز ما يقولونه وليس ما يعبّرون عنه بحركاتهم، خاصة في المشاهد الثابتة. قلة قليلة فقط من المخرجين هم من يميلون إلى كسر قواعد السينما والتجديد في التعامل مع الصورة، واختيار زوايا لها مغزى درامي، أو التعامل مع عناصر “اللغة السينمائية” (وهو مصطلح يعترض عليه قيس الزبيدي وعدنان مدانات، لكني أستخدمه فقط على سبيل المجاز)، وذلك بمفهوم إبداعي خلّاق، أي يبتعد عن مجرد ضمان سلاسة سرد قصة الفيلم وتوصيل مغزاها الاجتماعي والسياسي. الناقد يتعامل مع النوعين ويستنبط من كل نوع عناصره ويحللها، لكنه لن يفرض على عمل ينتمي للواقعية الاجتماعية، تحليلا بعيدا كل البعد عمّا ينطوي عليه العمل نفسه أنت لا تكف عن الحديث عن أن الفيلم ليس مجرد قصة ذات مغزى، وأنه أولا وأخيرا صورة وصورة فقط، لكنك من أشد المعجبين بأفلام عاطف الطيب التي يمكن اعتبار أهم ما فيها، مغزاها الاجتماعي والسياسي وقوة السرد فيها، وهو يستخدم عناصر السينما لخدمة تسلسل الموضوع وتدفق السرد.. وليست هناك ألاعيب شكلانية بالكاميرا أو خروج عن المألوف أو حتى تلاعب في شكل السرد والقفز بين الأزمنة والاعتماد على التداعيات وكل عناصر السينما الحداثية، بل إن سينما عاطف الطيب التي تشيد أنت بها كثيرا وتعتبرها مثالا على عظمة السينما، هي أفلام تقليدية تماما Conventional.. أهم ما فيها رسالتها وواقعيتها وتناولها مواضيع تهم المتفرّج، وليس أن عاطف كان يجدّد في شكل الفيلم ولغته ويغامر بفتح أبواب جديدة في التعبير السينمائي. صحيح أنه كان يهتم بالإضاءة وتفاصيل الصورة وحركة الكاميرا، ولكن في حدود الاهتمام العام بـ“الصنعة”، ولخدمة توصيل الفكرة، الرسالة، القضية، وليس ولعا بالابتكار والتجديد، فمن فضلك كفّ عن تلك الفكرة الساذجة التي تعتبر أن السينما هي لغة الصورة المجردة الشكلية والتلاعب الشكلي بالصورة. فليست كل الأفلام كذلك وليس كل المخرجين مهتمين بالخروج عن السرد التقليدي والبحث عن طرق شائكة متعرجة للسرد، لأن هذا النوع من السينما يتطلب مغامرة في الخيال لا يقدرون عليها. والناقد يتعامل مع أي فيلم حسب ما يوجد في الفيلم نفسه من داخله، ولا يخترع للفيلم لغة وأسلوبا ليسا فيه. فالانتقال من لقطة لأخرى مثلا، يكون في غالبية الأفلام التقليدية، لتصوير موقف درامي معين، أو تسليط الضوء على علاقة معينة بين الشخصيات (وليس بحثا عن اسقاطات رمزية أو وضع إشارات غامضة عليك أن تفكّكها، بين ثنايا المشهد). وإن أنت حاولت أن تخترع مثل هذه الأشياء فستصبح نبيّا زائفا يتحدّث للمتفرج عن فيلم لا وجود له! أنت أيضا تشيد وتهتم وتحب كثيرا أفلام مخرجين مثل كن لوتش ومايك لي وهما من أعلام السينما الواقعية البريطانية. ولكنك لن تعثر في أفلامهما على تلك المشاهد التي تستحقّ أن تتوقّف أمامها وتستنبط منها الدلالات والاشارات البنيوية المركبة المعقدة التي يطالبك بها صديقك العزيز رولان بارث أو جيل دولوز، والتي لا تستطيع أن ترى غيرها مقياسا للنقد. فهي أفلام مباشرة واضحة سلسة، تروي قصصا ما في سياق تقليدي Conventional، يهتم بالسياسي-الاجتماعي من خلال استخدام جيد للأماكن وتحريك للممثلين والاستناد على سيناريو متماسك محكم وشخصيات واضحة ذات أبعاد إنسانية واضحة. فهل يجب أن نهمل هذه الأفلام ونتجاهلها ونتجاهل تأثيرها الكبير كأفلام متماسكة من الناحية الدرامية لمجرد أنها لا تتيح لنا الفرصة للحديث عن “الدور الخاص في استخدام المونتاج، أو دلالات استخدام الألوان، أو التعامل المركب مع حركة الكاميرا مثلا، أو التلاعب بالسرد كما يفعل تارانتينو مثلا؟”. وليس في ما قلته عن عاطف الطيب أو كن لوتش ومايك لي ما يقلل من موهبتهم ومن عملهم في الأفلام، بل على العكس. إنهم يستخدمون التقنية السينمائية ببراعة دون أن يجعلوك تشعر بوجود التقنية أو الصنعة، ويدخلون في روعك أنك تشاهد قصة أو تتأمل حالة إنسانية تثير الاهتمام. وفي أفلامهم تكمن فلسفة إنسانية بسيطة وواضحة بعيدة كل البعد عن الافتعال أو الادعاء أو اللف والدوران. وليس كل ما هو واقعي يمكن اعتباره أدنى ممّا هو سريالي أو ما بعد ما حداثي أو بشكل عام “طليعي”. هذا نوع وذلك نوع آخر، فهناك فارق كبير بين سينما مايك لي مثلا وسينما تارانتينو. ولكننا نستمتع بالنوعين. والناقد يتعامل مع النوعين ويستنبط من كل نوع عناصره ويحللها، لكنه لن يفرض على عمل ينتمي للواقعية الاجتماعية، تحليلا بعيدا كل البعد عمّا ينطوي عليه العمل نفسه لمجرد استعراض العضلات والحديث عن فلسفته الخاصة، فنحن نحلل الفيلم من داخله ولا نسقط عليه من خارجه.
مشاركة :