يعوّل منظمو حراك السترات الصفراء الفرنسية على استثمار الاحتفاء بالذكرى الأولى لانطلاقته للتعريف به، بعد أن اهتزت له فرنسا ومدنها لأشهر العام الماضي. وتأتي الذكرى السنوية الأولى لولادة الحركة بعد تشتت الحشود التي نزلت إل الشوارع، كرد فعل مباشر على فرض ضريبة محروقات، ولكن تقلصت هذه الحشود مع مرور الوقت وحلّت مرحلة البحث عن سبل أخرى لإدامة هذه الحركة الاجتماعية غير المسبوقة. وفي 17 نوفمبر 2018، استجاب، بحسب السلطات الفرنسية، 282 ألف متظاهر يرتدون تلك السترات المتميزة، لدعوة أطلقت عبر موقع فيسبوك خارج أي إطار سياسي أو نقابي، وانتشروا عند تقاطعات الطرق في انعكاس رمزي لمعاناة شريحة واسعة من تراجع القدرة الشرائية. وفي اليوم نفسه في باريس، كان البعض يغلقون جادة الشانزيليزيه التي ستتحوّل مع الوقت إلى أحد معاقل تظاهرات أيام السبت حتى منعها من قبل السلطات في منتصف مارس 2019 إثر أعمال العنف والنهب التي شهدتها. ومثّل ذلك آخر تعبئة ضخمة لحراك انطبع في ديسمبر 2018 بالاعتداء على قوس النصر، والذي أثارت صوره المنتشرة صدمة في الخارج. ومنذ الربيع، لم تنفك التحركات في الشارع عن التراجع لتشهد في أسابيعها الأخيرة حضور بضعة آلاف من المتظاهرين فقط.ولكن بالنسبة إلى ماكرون، لم يعد شيء كما كان بعد عام على تلك الولادة. ففي نوفمبر 2018، كانت السلطة التنفيذية مضطرة إلى أن تشهد على نجاح السترات الصفراء. وبدأت أزمة أسفرت عن أسابيع من الاضطراب في أعلى هرم الدولة الفرنسية. وتجاوز حاليا ماكرون العاصفة، ويستعد لدخول الجزء الثاني من ولايته الرئاسية محافظا على “الطاقة الحيوية” من أجل “تغيير البلاد”. ولكنّه أكد، أخيرا، أنّ ذلك سيتم في ظل “المزيد من الصبر والإنصات”. ويقر بأنّ “لحظة التشنجات الشديدة”، التي مثّلها هذا التحرك طبعته “بشكل عميق”. وفي ذروة الأزمة في ديسمبر 2018، ظهر ماكرون متفاجئا إزاء شدّة رفض شخصه خلال التظاهرات. ويقول الباحث في العلوم السياسية، جان غاريغ، إنّ ماكرون كان يعتقد قبل ذلك “بالإمكان فرض إصلاحاته”. ولكن تلك الأزمة “جعلته يدرك أنّ العدائية التي عبّرت عنها غالبية الفرنسيين تفرض عليه منهجا آخر” يرتكز على “البحث عن الحوار مع المواطنين، ولكن أيضا مع الهيئات الوسيطة”. وسينعكس تغيير المنهج عبر “الحوار الوطني الكبير”، الذي نظمته السلطة التنفيذية في كافة أنحاء فرنسا بين يناير ومارس. وبالرغم من ذلك، لا تزال فئة واسعة متشككة، خاصة بشأن مدى قدرتها على إحداث تغيير، بحسب عدد من استطلاعات الرأي. ويعتبر فريديريك دابي، نائب مدير المعهد الفرنسي لدراسات الرأي العام، أنّ ”مبلغ 17 مليار يورو من المساعدات وخفض الضرائب، الذي أعلن عنه الرئيس الفرنسي، سمح بتهدئة علاقته بالفرنسيين”، غير أنّ “رافعات الدعم والحشد لا تزال حاضرة”. ويرغب العديدون من حراك السترات الصفراء العودة إلى باريس في ذكرى انطلاقته. وتعتبر بريسكيليا لودوسكي، وهي واحدة من ملهمي هذه الحركة الاحتجاجية، أنّ “المدهش هي أنّها لا تزال قائمة وليس أنّ ثمة أعدادا أقل”. ومن جانبه، يشير فرنسوا بولو، وهو محام ومتحدث باسم السترات الصفراء في روان شمال غرب البلاد، إلى أنّ “الكثير من الناس اليوم لا يجرؤون على التظاهر خشية فقدان عين أو يد أو التعرض للغاز المسيل للدموع”. وباتت قاذفة الكرات، التي نددت بها حركة السترات الصفراء فيما رفض القضاء منع استخدامها، ترمز إلى “العنف الأمني”. وبحسب السلطات، فقد أصيب 2500 متظاهر و1800 عنصر من القوى الأمنية. وفي تسجيل مصوّر نشر في منتصف أكتوبر، دعا إريك درويه، وهو إحدى الشخصيات البارزة ضمن الحراك، إلى “التلاقي” مجددا بين كل “المهن”. ولكن من دون تسجيل نجاح حتى الآن. ويعتبر الباحث في المعهد الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية، لوران جان بيار، أنّ إعلان نهاية الحراك بالاستناد فقط إلى “معيار عدد المشاركين” خطأ. ويقول، “ثمة بلا شك تراجع. غير أنّ أثر حركة ما يتجاوز دوما فترة الحشد”. وبعد عام، لم يجد أصحاب السترات الصفراء ترجمة سياسية لتحركهم. ففي الانتخابات الأوروبية في مايو، لم تحصد القائمتان المنبثقتان عن الحراك سوى 0,54 بالمئة من الأصوات. وثمة مساع حاليا في فرنسا لهيكلة حراك السترات الصفراء. وبالرغم من أنّ أفقه لا يزال غامضا، فإنّ الترويج للديمقراطية المباشرة يمثّل العامل المشترك الوحيد بين المساعي. وفي هذا السياق، تسعى بريسكيليا لودوسكي إلى إنشاء “لوبي مواطني” يكون حاضرا في كل منطقة بغية “تحريك المنتخَبين محليا وجعلهم يدركون أنّ لدى المواطنين كلمتهم”. وسيترشح ممثلون آخرون عن السترات الصفراء في الانتخابات البلدية المرتقبة في مارس 2020. وشهدت عدة أنحاء من العالم في الأشهر الأخيرة صراعات اجتماعية، انبثقت من بيئات تتشارك في انعدام المساواة الاقتصادية والتهميش السياسي، على غرار الانتفاضة غير المسبوقة في وجه السياسيين اللبنانيين، والأزمة الشديدة في تشيلي، والحراك في الجزائر، كما التظاهرات الواسعة والمستمرة في هونغ كونغ. ويدل الغضب الشعبي في هذه البلدان المختلفة على قلق عميق، خاصة لناحية الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء. وبحسب منظمة أوكسفام، كان 26 مليارديرا يحوزون ماليا عام 2018 على ما يوازي مقدرات نصف الكرة الأرضية الأكثر فقرا.
مشاركة :