تعلي التربية الحديثة ومنها الإيجابية من شأن المبادئ الفضلى والخصال المتعلقة بالتفاعل مع الآخر كإتقان التواصل والاهتمام بآلام الآخرين وتقديم المساعدة والتفهم واللطف والكرم، ويؤكد مختصون أن هذا الإعلاء لا يقوم فقط على إشادة الآباء بهذه المبادئ على أنها ميزات إنسانية رائعة بل من خلال إتيان سلوكيات وممارسات تعبر عنها وتجعل الأبناء يهتمون بها بدورهم ويقلدون آباءهم في العمل بها. ويعتبر المختصون في علم النفس أن تنمية هذه الجوانب تخلص الطفل من اللامبالاة ومن الأنانية المفرطة وتجعله يرتقي في مستوى العطاء وتقديم المساعدة للأقل حظا، وفي الوقت الذي يتم فيه تطوير أساليب التربية الحديثة والإيجابية منها مازالت الأسر العربية تناقش مواضيع من قبيل هل الثواب والعقاب والعنف اللفظي والبدني وسائل تربوية ناجعة، ومازال الآباء والأمهات في المجتمعات العربية يعتمدون التربية الكلاسيكية التي يحاول منظرو التربية الحديثة حث الجميع حول العالم إلى التخلص منها لأن تأثيراتها السلبية على الطفل باتت مثبتة علميا. ويوقع تركيز الآباء المفرط على تحقيق أبنائهم النجاح والوصول لأعلى المراتب في فخ التربية غير المتزنة والتي من شأنها أن تجعل جيلا كاملا ناجحا تعليميا وعمليا لكن علاقاته الأسرية والاجتماعية غير متزنة ومبنية على الأنانية والفردانية والرغبة في إسعاد الذات دون المبالاة بالآخرين ولا التعاطف معهم أو محاولة مساعدتهم. ويدعو عالم النفس في كلية وارتون للأعمال بجامعة بنسلفانيا الأميركية آدم غرانت الآباء والمربين إلى “التوقف عن محاولة تنشئة أطفال ناجحين، والبدء في تربية أشخاص لطفاء”، ويعتبر أن الأطفال الصغار لديهم حساسية عالية بهفوات الكبار وبما يفعلونه. ويقول “إذا سألت الآباء الأميركيين عما يريدونه لأطفالهم، فإن أكثر من 90 بالمئة منهم يقولون إن إحدى أولوياتهم العليا هي مراعاة أطفالهم. هذا منطقي: اللطف والاهتمام بالآخرين يعتبران فضيلتين أخلاقيتين في جميع المجتمعات تقريبًا وجميع الأديان الكبرى. لكن عندما تسأل الأطفال ما يريده آباؤهم بالنسبة لهم، يقول 81 بالمئة أن آباءهم يقدّرون النجاح والسعادة بدلاً من اللطف والرعاية”. الأطفال يتعلمون ما هو مهم للبالغين ليس من خلال الاستماع إلى ما يقولونه لهم، ولكن من خلال ملاحظة ما يلفت انتباههم وما يهتمون به يتعلم الأطفال ما هو مهم للبالغين ليس من خلال الاستماع إلى ما يقولونه لهم، ولكن من خلال ملاحظة ما يلفت انتباههم وما يهتمون به. وفي العديد من المجتمعات المتقدمة، يولي الآباء الآن اهتمامًا أكبر بالنجاح والسعادة الفردية أكثر من أي شيء آخر. ورغم أنهم يشيدون باللطف والاهتمام، إلا أنهم لا يظهرون لأطفالهم أنهم يقدرون هذه الميزات. وتؤكد العديد من الدراسات أن الطفل يتمتع بالذكاء وبالملاحظة الدقيقة ويتعلم من سلوكيات وتصرفات الكبار أمامه أكثر مما يتعلمه من التوجيهات والنصائح وحتى الأوامر، بل يلاحظ ما يفعله الكبار ويتبع أفعالهم متأثرا بالأشخاص الأقرب إليه والذين يحبهم ويريد أن يكون مثيلا لهم لأنهم يعجبونه ويأتي الوالدان في أعلى هرم ترتيب الشخصيات التي يتأثر بها الطفل ويحاول تقليدها. وتشير بحوث التربية الحديثة إلى أن التنشئة على ما نتمناه لأطفالنا والإشادة فقط بما نراه مبادئ عامة فضلى مثل اللطف مع الآخرين دون ممارسة ما يوحي لهم بأن اللطف ومساعدة الآخر والتفاعل مع المحيط العائلي والاجتماعي سلوكيات تطبق من قبل الآباء بشكل طبيعي وباستمرار لا تؤثر فيهم ولا نغرس في وجدانهم وأفعالهم هذه المبادئ. ويقول غرانت “لا ينبغي أن نفاجأ، عندما يبدو أن اللطف بيننا آخذ في الانخفاض. وقد كشف تحليل للمسوحات السنوية لطلاب الولايات المتحدة انخفاضا كبيرا في الفترة من 1979 إلى 2009 في التعامل مع وجهات نظر الآخرين. خلال هذه الفترة، كان الطلاب أقل اهتمامًا بالأشخاص الأقل حظًا منهم وأظهروا لا مبالاة ولم ينزعجوا من رؤية الآخرين يعاملون بطريقة غير عادلة”. جيل يساعد أقل من سابقيه في المقابل تقول تجارب وبحوث أخرى أنه ليس صحيحا أن جيل الصغار والشباب لا يهتمون بالآخرين لكنهم يساعدون بدرجة أقل من المتوقع وأقل مقارنة بالأجيال التي سبقتهم. ويرى مختصون في علم النفس أن جيل المراهقين والشباب اليوم يهتمون بالآخرين الذين يواجهون مصاعب ويعترفون أنهم يحتاجون للمساعدة لكنهم لا يشعرون بالمسؤولية تجاههم ولا يبادرون بالمساعدة. وتنسحب هذه الملاحظات على جيل كامل حتى في المجتمعات العربية حيث يؤكد مختصون في علمي النفس والاجتماع صعود الفردانية والأنانية واللامبالاة بما يواجهه الآخرون الاقل حظا من صعوبات ومشاكل تجعلهم يستحقون مد يد المساعدة. غالبية المجتمعات العربية تتجه نحو تفكك الروابط بين الأفراد ونقص الاهتمام المتبادل ويحمل هؤلاء جزءا من المسؤولية عن هذا الوضع للآباء ولأساليبهم التربوية. ويوضح غرانت أنه من خلال ملاحظة وتحليل الواقع اليومي وجد خبراء علم النفس أن العديد من الآباء أصبحوا يركزون على إنجازاتهم لدرجة أنهم فشلوا في تنشئة أبنائهم على مبادئ اللطف ومساعدة الآخر، “يبدو أنهم يعتبرون مدح أطفالهم علامة شخصية على الشرف والنجاح وفشل أطفالهم بمثابة انعكاس سلبي على دورهم كآباء أو أمهات”. ويدفع الكثير من الآباء بمهارة أبنائهم إلى عدم التعامل بلطف مع الآخر، وينظرون إليه كمصدر للضعف في عالم مبني على التنافسية الشديدة، ويعارض هؤلاء التدخل عندما يكون أطفالهم الصغار أنانيين فيما يتعلق بمشاركة لعبهم، ويخشون أن هذا التدخل سيمنع الأطفال من تعلم الدفاع عن النفس وتحمل المسؤولية. وهم أقل قلقًا بشأن تربية شخص بالغ لا يقبل معنى المشاركة والاشتراك وليست لديه مشكلة في قول لا. ويرى غرانت لأنه لا يوجد سبب يمنع الآباء من تعليم أطفالهم أن يهتموا بأنفسهم وبممتلكاتهم وأن يكونوا كرماء في نفس الوقت. ويقول “إذا شجعت الأطفال على مراعاة احتياجات الآخرين ومشاعرهم، فإنهم سيفعلون ذلك في بعض الأحيان. لكنهم سيتعلمون مستقبليا نظرية المعاملة بالمثل: فإذا لم تأخذ الآخرين بعين الاعتبار، فقد لا يهتمون بك بدورهم. وأولئك من حولك سيكونون أقل عرضة لإظهار الاهتمام لبعضهم البعض”. إن تركيز الآباء على تنمية روح التحدي والمثابرة عند أطفالهم هو جزئيًا نتيجة غير متوقعة للرغبة في معاملة الأولاد والبنات بشكل أكثر إنصافًا. الفتاة تتربى على الطاعة تاريخيا، شجعت الأسر والمدارس الفتيات على أن يكن لطيفات وقادرات على تقديم الرعاية للمحيطين بهن، مقابل أن يكون الأولاد أقوياء وطموحين. اليوم، يستثمر أولياء الأمور والمعلمون في بناء ثقة الفتيات بأنفسهن وبقدراتهن القيادية. لكن ولسوء الحظ، فإن تطور الكرم ومفاهيم الرعاية عند الأولاد لا يتمتع بنفس الزخم. والنتيجة أنهم يكون أقل اهتماما بالآخر وميالون إلى العزلة على جميع المستويات. وفي المجتمعات العربية حيث تعتمد غالبية الأسر أساليب التربية الكلاسيكية تربى الفتاة منذ سنواتها الأولى على الاعتناء بالآخر حتى عند لعبها بدمية تهتم بها، ثم تكبر معها هذه الروح، كما تميل أكثر لمشاركة ألعابها مع الآخرين، وتربى على تقديم المساعدة وتلبية الطلبات وعندما تكبر تلقن كيف تطيع الأوامر ثم تربى على طاعة الكبار وعلى طاعة إخوتها الذكور فتبدأ بتلبية طلباتهم الصغيرة ثم تمر أوتوماتيكيا إلى تنفيذ أوامرهم وتتعلم أنه من واجبها طاعتهم. وتغرس أبجديات التربية في الأسرة العربية في تكوين الفتاة روح العطاء والاهتمام بالآخر واللطف معهم وتقديم المساعدة، وتحمل المسؤولية بينما يتعلم الولد أن يطلب من شقيقته أن تأتيه بما يحتاج، ويتربى على أن يكون الشخص القوي والمدافع على أشيائه ليتعلم كيف يدافع على نفسه وأهله فيكون أكثر صلابة عندما يحاول أولياء الأمور تعليمه روح المشاركة أو كيفية تقديم المساعدة أو تبادل الاهتمام والرعاية وسط المجموعة.
مشاركة :