عملية «نبع السلام»، التي شنتها الحكومة التركية على شمال سورية من أجل خلق منطقة عازلة، تعيد إلى الأذهان الغزو الإسرائيلي للبنان، عام 1982، في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، في مسعى لخلق منطقة قد تجلب لها السلام، إلا أن الحرب على لبنان أسفرت في النهاية عن سقوط آلاف القتلى، وأدت إلى ظهور ميليشيا «حزب الله»، وإلى احتلال دام 18 عاماً لم ينتهِ إلا بعد حرب عصابات مطولة. كلتا العمليتين: «سلام الجليل» الإسرائيلية و«نبع السلام» التركية، جاءتا باسمين متفائلين، لكن إلى جانب العنوانين المتشابهين، هناك أوجه تشابه مهمة، على تركيا أن تعيها جيداً في تقييم التداعيات المحتملة لحربها الحالية في شمال سورية. فشل الغزو بدأ توغل إسرائيل في لبنان عام 1978، بعد أن أنشأت الدولة العبرية منطقة أمنية في الجزء الجنوبي من البلاد. وكانت هذه الخطوة محاولة من إسرائيل لصد المقاتلين الفلسطينيين الذين يستخدمون هذه المنطقة كقاعدة انطلاق لعمليات مميتة ضد إسرائيل. صعّدت إسرائيل من عملياتها القتالية في يونيو 1982، وشنت غزواً كاملاً بهدف اقتلاع المقاتلين الفلسطينيين، وزعزعة الحركة الوطنية الفلسطينية، ودفع القوات السورية إلى خارج البلاد، وإنشاء حكومة موالية لها في بيروت. من الأفضل أن تدرس تركيا بشكل متعمق الفشل الذي تعرضت له إسرائيل في لبنان، في ما يتعلق بتقييم التداعيات المحتملة لحربها الحالية في شمال سورية. لقد نجح الغزو الإسرائيلي في إجبار المقاتلين الفلسطينيين على الخروج من لبنان، لكن الأهداف المتبقية للعملية فشلت بالكامل، وكانت النتيجة الفعلية أن إسرائيل وسعت وحصنت حزامها الأمني جنوب لبنان، من خلال دعمها الميليشيا المحلية المتمثلة في «جيش لبنان الجنوبي»، ثم أمضت 18 عاماً في الدفاع عن هذه المنطقة العازلة ضد ميليشيا «حزب الله»، وفشلت في طرد القوات السورية، أو إنشاء حكومة موالية لإسرائيل في بيروت. وفي الواقع، لم توفر المنطقة العازلة سوى القليل جداً من الأمن لحماية إسرائيل، وأصبح هدف الجيش الإسرائيلي فقط هو الدفاع عن المنطقة الأمنية، التي أصبحت فعلياً الهدف الرئيس للاحتلال، وانتهى منذ فترة طويلة الهدف الأساسي لها، المتمثل في حماية إسرائيل من الهجمات الفلسطينية، وبمرور الوقت فشل الإسرائيليون في ملاحظة هذا التغيير. جنوب لبنان منطقة غير متجانسة، يتألف سكانها من مزيج من الشيعة والسنة، والدروز والموارنة، والكاثوليك والأرثوذكس اليونانيين وغيرهم. وفي الخيال الإسرائيلي، وغالباً في تقارير وسائل الإعلام، يتم تصوير الحرب على أنها حرب بين إسرائيل وحلفائها المسيحيين ضد الشيعة اللبنانيين العدائيين، وفي الواقع كان أكثر من 50% من جنود جيش لبنان الجنوبي من الشيعة أو السنة أو الدروز، وقاوم عدد كبير من المسيحيين اللبنانيين الاحتلال الإسرائيلي. كان الحزام الأمني في جنوب لبنان متميزاً سياسياً عن بقية البلاد وإسرائيل، حيث كان على السلطة الجديدة في المنطقة تقديم الخدمات للسكان المحليين في غياب إدارة مدنية فاعلة، كان عليها أيضاً توفير الوظائف والحفاظ على البنية التحتية، وهي مسؤوليات لم يتم أخذها في الاعتبار من قبل القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، وباختصار كان الحفاظ على المنطقة الأمنية بمثابة استنزاف لاقتصاد إسرائيل فضلاً عن جيشها. كان للغزو أيضاً تأثير سلبي في مكانة إسرائيل العالمية، حيث إن العنف المبالغ فيه، الذي استخدمته إسرائيل أثناء الغزو، وآلاف الإصابات في صفوف المدنيين، وأخيراً مذبحة صبرا وشاتيلا التي تعرض لها اللاجئون الفلسطينيون في بيروت، والتي نفذها حلفاء إسرائيل المسيحيون في بيروت عام 1982، أدت إلى تآكل صورة إسرائيل الأخلاقية، وتعزيز الدعم الدولي للكفاح الفلسطيني من أجل تقرير المصير. كما أنها حرضت على واحدة من المواجهات المفتوحة الأولى بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية. اضطرت إسرائيل إلى الخروج من لبنان في مايو 2000، واستخدم «حزب الله» النصر لتعزيز سلطته في البلاد، وتفكك جيش لبنان الجنوبي بعد أن أصبح دون دعم إسرائيلي، وفرّ الآلاف من جنوده جنوباً مع عائلاتهم، خوفاً من الانتقام بسبب تعاونهم مع إسرائيل. التجربة الإسرائيلية في لبنان تمثل دروساً للغزو التركي لسورية اليوم. أولاً تستخدم الدول في كثير من الأحيان ذريعة إنسانية لتعزيز مصالحها الجيوسياسية. وفي حالة إسرائيل ولبنان، برّر المسؤولون الغزو جزئياً بتقديم المساعدة للمسيحيين الذين صُوّروا كأقلية مضطهدة في دولة يهيمن عليها المسلمون. هذه الرواية تحجب نيات إسرائيل الحقيقية، التي كانت تتطلع إليها عام 1982 لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، عن طريق تدمير قوة سورية الإقليمية وتوجيه تطلعات الفلسطينيين الوطنية نحو الأردن. وفي حالة وجود حكومة موالية لإسرائيل في بيروت، ونظام ضعيف في دمشق، ودولة فلسطينية ضعيفة تقوم على أنقاض المملكة الأردنية الهاشمية، ظن مهندسو الغزو أن إسرائيل ستصبح سلطة مهيمنة بلا منازع في المنطقة. الحالة التركية تركيا صاغت أيضاً محاولتها لإنشاء منطقة أمنية في شمال سورية على أساس نويات إنسانية، وعلى الرغم من أن تركيا واضحة في خطتها لتدمير مشروع الحكم الذاتي الكردي في روجافا، كما تسمى المنطقة الكردية في شمال سورية، تدعي تركيا أيضاً أن الغرض من العملية هو إعادة توطين اللاجئين السوريين الذين يعيشون حالياً في تركيا. وهذه الحجة الإنسانية هي تكتيك دبلوماسي استخدمه الأتراك لحماية أنقرة من انتقاد العواصم الأوروبية من خلال تعمية نياتها الفعلية. وفي الواقع، تتجاوز الطموحات التركية القضاء على الحكم الذاتي الكردي في سورية، لتمتد لتشمل إبعاد الأكراد السوريين من المناطق الحدودية، بحيث تكون المنطقة العازلة التي تسعى إلى تأسيسها تتعامل بشكل صريح مع «إرهابيين محتملين»، بالإضافة إلى ذلك يهدف الغزو إلى إرسال رسالة ردع للأكراد في تركيا، ويرتبط بالقومية التركية التي ظل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يروج لها منذ أكثر من عقد، حيث اعتبر تركيا حامياً متجدداً للإسلام السني، ويعيد توجيه طموحاتها الإقليمية شرقاً إلى الأراضي التي كانت تسيطر عليها الدولة العثمانية. لكن الذريعة الإنسانية من المرجح أن تفشل، حتى لو تمت إعادة توطين اللاجئين السوريين بنجاح، وهو أمر يصعب تخيله، فسيكونون لاجئين داخليين في بلدهم، لأن معظمهم ليسوا من هذا الجزء من سورية. وليس من الواضح على الإطلاق إذا كان أردوغان يتصور إعادة توطينهم في القرى التي هجرها الأكراد، أو إذا كان سيبني لهم مخيمات جديدة كلاجئين، أو إذا كان نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، سيقبلهم في المنطقة الآمنة أو يستهدفهم كخصوم محتملين، أو إذا كانوا قادرين على دعم أنفسهم في هذه المنطقة الآمنة المزعومة. وبدلاً من أن تصبح «آمنة»، فإن هذه المنطقة ستكون ساحة أخرى لمرحلة جديدة من العنف الشديد في الحرب الأهلية السورية، وفي الواقع بدأت أزمة إنسانية جديدة تتكشف الآن مع موجات من اللاجئين الجدد الفارين من المنطقة. ومثل الغزو الإسرائيلي للبنان، تخطط تركيا لإقامة منطقة عازلة في شمال سورية كوسيلة لتحقيق أهداف طموحة أخرى. وإذا نجحت فإنها ستمنح أنقرة إمكانية الوصول الإقليمي إلى سورية، وتمكنها من لعب دور نشط في تشكيل الشرق الأوسط الجديد، الذي يخرج الآن من رماد الحرب الأهلية السورية. ومع خروج الولايات المتحدة عملياً من سورية، فإن هذا الشرق الأوسط الجديد، الذي تعمل على صياغته الآن روسيا وإيران، ترغب تركيا في أن يكون لها نصيب من كعكته. قد تخاطر تركيا بعلاقاتها الطويلة الأمد مع الولايات المتحدة، التي كانت متوترة حتى قبل غزو شمال سورية، في أكتوبر، لكنها اكتسبت في الوقت نفسه شراكة مع روسيا تجيرها حالياً لمصلحتها. والفائز الوحيد المؤكد في هذه الشراكة هو الأسد، الذي استفاد نظامه بشكل كبير من غزو تركيا لبلده. ومن المفارقات، أن هذا الغزو قد يشكّل دعماً قوياً لنظام الأسد في سورية، ففي حين أن الأكراد السوريين قد لا يشكلون تهديداً أمنياً لتركيا، سيتعين على أنقرة العمل مع حكومة دمشق التي تمقتها، لتقبل بدولة سورية تدعمها روسيا وإيران، وتتعامل مع أوهام بدلاً من أحلام إحياء عظمتها العثمانية. أقام الجيش الإسرائيلي علاقة وثيقة للغاية مع «جيش لبنان الجنوبي»، لذلك عندما انسحب الأول في مايو 2000، تفكك «جيش لبنان الجنوبي» بسرعة، وواجهت إسرائيل أزمة إنسانية من صنعها، لأن الآلاف من جنود جيش لبنان الجنوبي السابقين وأسرهم فروا من لبنان، وعبروا الحدود إلى إسرائيل. ويعتبر هذا درساً قوياً لتركيا، حيث تجند أنقرة حالياً وتدعم العديد من الميليشيات في حملتها العسكرية ضد الأكراد، وتشير بعض التقارير الإعلامية إلى أن هذه الميليشيات تشكّل الجزء الأكبر من قوات الهجوم البري على الأكراد. درس آخر درس آخر تقدمه الحالة الإسرائيلية، يتمثل في أن تحويل مثل هذه الميليشيات إلى ذراع فعلية للجيش التركي، يمكن أن يأتي بثمن باهظ بالنسبة لتركيا، فهذه الميليشيات مدفوعة بالحوافز المالية التي تقدمها تركيا، لكن لا تعنيها المصالح الاستراتيجية التركية. عندما تنسحب تركيا من هذه المنطقة الآمنة، فقد تتسبب في كارثة إنسانية أخرى، لأن هذه الميليشيات قد تواجه سكاناً محليين معادين، وربما نظاماً عدائياً في دمشق. قد يهربون أيضاً إلى تركيا خوفاً من الانتقام في سورية. وحدثت مثل هذه السيناريوهات خلال الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000، وينبغي أن تكون بمثابة درس تاريخي لتركيا اليوم. هناك شيء واحد مؤكد، أن استخدام تركيا لهذه الميليشيات يعد مؤشراً آخر إلى النويات الماكرة لهذا الغزو. إنه يستفيد من التوترات العرقية والطائفية من أجل ضمان قمع أنقرة للأكراد السوريين، وتعزيز القومية التركية التي ترى أن أي تعبير عن الاستقلال الكردي يشكل تهديداً لأمن تركيا وهويتها الوطنية. البُعد العالمي للعملية هناك بُعد عالمي للعملية في شمال سورية قد لا يصبّ في مصلحة أنقرة، ذلك لأن تركيا لا تتمتع بالمستوى نفسه من الدعم الدولي، الذي استفادت منه إسرائيل بين عامي 1982 و2000. طوال 18 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان أظهرت العلاقات الأميركية - الإسرائيلية متانتها ومرونتها، وعلى الرغم من النقد الصريح لإعجاب الرئيس الأميركي الراحل، رونالد ريغان، بغزو 1982، واستمرار الدعوات الأميركية لاستعادة سيادة لبنان واستقلاله، فقد قدمت الإدارات الأميركية المتعاقبة لإسرائيل الدعم الكامل خلال سنوات الاحتلال الطويلة هذه. في النهاية، لم يكن قرار الانسحاب من الحزام الأمني في جنوب لبنان عام 2000، نتيجة للضغوط الدولية، بل داخل المجتمع الإسرائيلي حيث تعب الإسرائيليون من احتلال بلا هدف. تركيا، من ناحية أخرى، تفتقر إلى الدعم الدولي لأفعالها، وتعتمد حالياً على التعاون مع روسيا لتحقيق أهدافها. على عكس العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، فإن التعاون التركي - الروسي اليوم هو تكتيكي في المقام الأول. ويمكن أن يتحول إلى غير ذلك، إذا قررت موسكو المخاطرة بمصالحها الاستراتيجية في سورية. ومن غير المرجح أن تكون تركيا قادرة على الحفاظ على احتلالها إذا فشل التعاون مع روسيا. تتجاوز الطموحات التركية القضاء على الحكم الذاتي الكردي في سورية، لتشمل إبعاد الأكراد السوريين من المناطق الحدودية، بحيث تتعامل المنطقة العازلة بشكل صريح مع «إرهابيين محتملين». العنف المبالغ فيه الذي استخدمته إسرائيل أثناء غزو بيروت، وآلاف الإصابات في صفوف المدنيين، ومذبحة صبرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين في بيروت، أدت إلى تآكل صورة إسرائيل الأخلاقية.ShareطباعةفيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :