“الكتاب الأبيض” لهان كانغ تعتبر رواية تجريبية في المقام الأوّل، فهي دون أحداث أو تفاصيل تقريبًا، كما أنها تعتمد على التأمُّلات الذاتيّة لمعنى الفقد والحزن، وانعكاسات الأشياء خاصة اللون الأبيض على ذاتها، واختبار للروح في هشاشتها وصلابتها. تأتي الرواية في ثلاثة أقسام، الأول بعنوان (أنا) والثاني (هي) والثالث (كل البياض)، عبر مراوحة بين ذاتها المنسحقة وذات أختها الغائبة والمستعادة. تجريبية النص قائمة على المزج بين تشكيلات الصورة وتأثيرها على العين والمتن الروائي، فضمّنت الكاتبة النص الكثير من التشكيلات البصرية التي تنسجم مع طبيعة المحكي خاصة ما هو متعلُّق باللون الأبيض، في نوع من التضفير بين الكتابي والبصري. كما يغلب على الفصول القصر والاختزال، حتى أن مفردة تأمّلات تكاد تكون أكثر تعبيرًا عن طبيعة النص، لما تحويه من رمزية تارة وشعرية تارة ثانية، إلى درجة أن بعض المقاطع تكاد تكون شعرًا خالصًا. الكتابة تحوُّل العالم الروائي في الرواية الجديدة، والصادرة بترجمة محمد نجيب عن دار التنوير 2019، ينحو بعيدًا عن تعقيدات السياسة، والواقع الاجتماعي، وإن كانا حاضريْن كخلفية للأحداث، كما أنّه يتّسم بكونه عالمًا لصيقًا بالذات إلى درجة التماهي والشفافية، بل من المبالغة إذا قلنا إن رواية “الكتاب الأبيض” قصة أو حكاية، فلا توجد حكاية أو قصة تسردها الرواية، وإنما مجرد نثار أشبه بندف الثلج عن سيرتها الذاتية وسيرة الغائبة أختها، وعن فلسفتها الخاصة في تأمّل الأشياء والحياة، عبر انعكاسات اللون الأبيض الذي تستحضره في كافة ترداداته: القِماط/ ثوب طفل وليد/ ملح / جليد/ قمر / شجرة المغنوليا / أرز/ موج البحر/ طائر أبيض/ الضحكة البيضاء/ ورقة بيضاء/ شعر أبيض/ كفن، منديل. ذات الروائية تتقاطع مع أختها ومع شخصيات أخرى تستحضرها الكاتبة، لتعكس وقع المأساة التي عاشتها بالفقد تنتقل الرّاوِيَة إلى مدينة “على الجانب الآخر” لم تُحددها الكاتبة، وإن كانت كل المؤشرات تشير إلى أنها وارسو، أو حتى تذكر أسباب هذا الهروب إليها. تعيش فيها وتستأجر شقة بعقد مؤقت، تطفو في هذه المدينة الذكريات القديمة، بل وتجبرها على “النظر في داخلها”. رويدًا رويدًا ينكشف سبب البُعد، والاختفاء في هذا المكان. ومن ثمّ تأتي الكتابة هنا بوصفها لحظة فارقة لمغادرة زمن معاش تَهرب منها إلى زمن لم تعشه، تستحضره من المخيلة ومن خطابات الآخرين وتصوراتهم، والأدهى أنها تصوغ (أو تنتزع) منه حياة كاملة من الرماد لكائن لم يكن موجودًا، وإن كان غيابه أسهم في وجوده. ومن ثم هي أشبه بكتابة ردّ الجميل له. إعادة ترميم الذات تتوازى ذات الراوية مع ذات المدينة المزيج بين الجديد وأطلال القديم، التي أباد النازيون في عام 1945 خمسة وتسعين بالمئة من سكانها، لأنهم وقفوا ضدهم، وطردوا الجنود الألمان، وشكّلوا حكومة لمدة شهر، قررت أن تحكم المدينة قبل أن يُقرِّر هتلر إبادتها تمامًا. مدينة حديثة فلا يوجد شيء يزيد عمره على سبعين سنة، أعادت بناء نفسها وإن كانت بعض مبانيها زائفة، حيث تحايلت الأسرة المالكة التي كانت تقضي عطلة الصيف على إعادة بناء مبان جديدة وفقا للصور الفوتوغرافية والرسومات القديمة. فالمدينة وروحها كلاهما يسعيان لأن يُبعثا من جديد، لكن الماضي يطفو، بذكريات عن الأسرة وعن الطفلة التي كانت قربانًا لها. تستدعي صورة الموت أشكال الموت الموازي والذي تكرر مع الأم كثيرًا، فأول طفل أنجبته الأم -كما حكى لها الأب- مات بعد ساعتين من ولادته. كما كان هذا الموت هو أول اختبار لفهم طبيعة الحزن. الغريب أنه عندما أجابت تركت الحديث عنها وتحدثت عن كلبها الأبيض الذي نفق وهي في الخامسة من عمرها. وأيضًا موت صديقها في الجامعة، وعمها الذي مات مبكرًا بسبب إدمانه الكحول. بل تأخذنا في نثر تفاصيل صغيرة عن عائلتها التي كانت تعيش في منزل معزول في الريف بالقرب من المدرسة التي يعمل فيها الأب. بشكل أو بآخر يحضر السياق الاجتماعي الذي نشأت فيه، حيث لا يوجد في القرية إلا هاتف وحيد “في محل صغير بجوار محطة الحافلات” وتدبير الأم لحاجيات صغيرتها القادمة التي جاءت قبل موعدها، فصنعت ثوبًا للطفلة من قماش أبيض، حاكته بإبرتها. ثم رحلة الأب ذي الخامسة والعشرين ربيعًا إلى الجبل كي يدفن الطفلة التي ولدت وماتت بالأمس. تتقاطع ذات الروائية وأختها مع شخصيات أخرى تستحضرها الكاتبة، لتعكس وقع المأساة التي عاشتها بالفقد. فالأخت الغائبة التي تستحضرها تتوازى مع ذلك الشخص الذي ولد في المدينة، عاش يزعم طوال حياته أن روح أخيه الأكبر الذي مات في السادسة من عمره في غيتو يهودي، يسمع صوته من وقت لآخر دون أن يراه، أو يشعر بوجوده. الغريب أن هذا الرجل بدأ يدرس لغة هذه البلد، تعرف على مخاوف أخيه، الذي كان يصرخ من رعب ما شاهد. تعكس هذا العالم على ذاتها، وتتصور لو أن أختها التي لم تعش إلا لساعتين جاءت، ستشعر بالضياع لأن الطفلة لم تسنح لها الفرصة كي تتعلم اللغة. بل تجنح إلى القول إن هذه الطفلة لو تمكنت من أن تعيش بعد تلك الساعات القليلة الأولى، لما كانت هي موجودة، فتدين بوجودها وحياتها لأختها، ومن ثم تأتي الاستعادة كنوع من الوفاء لها. وبالمثل تتقاطع ذاتها مع ذات ابنة الكاتب بارك تاي ون “سول – يونغ” بمعنى زهرة الثلج. فاليوم الذي ولدت فيه كان صعقيًا أكثر من كونه ثلجيًّا، لذا اختار سول “ثلج” كمقطع من اسمها. فعل الكتابة تستعيد الروائية حياة الأخت الغائبة والمفقودة بفعل الموت، وتمنحها عمرًا أكبر من عمرها الحقيقي. تأخذها في ذات الأماكن التي هي موجودة فيها، وتتركها تتعامل كأنها كائن موجود. بل تتصور لها حياة كاملة وقد عاشت لتشرب الحليب الذي اعتصرته الأم فخرجت قطرة أشبه بالماء مائلة للأصفر، قبل أن يندفع حليب أبيض أملس في تنفسها البطيء وفي ارتجاف شفتيها، وقد فطمت وصارت تأكل عصيدة الأرز، بل وهي تكبر يومًا بعد يوم حتى تصبح امرأة، “تجتاز كل أزمة تواجهها”. بل الأغرب أنها تتخيّلها تأتي إلى هذه المدينة بديلاً عنها، فتمشي في شوارعها. تمنحها حياة كاملة “وأشياء بيضاء”، وهي تمشي وتتأمّل واجهات المحال، تتابع الحركة المتكرِّرة للأمواج. كما تعيرها عينيها لترى بها وترى وقع مشاهداتها بتأثير عيون أختها. وبعينها سترى المكان الأكثر عمقًا وسطوعًا داخل زهرة ملفوفة بيضاء وارتجافة نصف قمر يظهر في وضح النهار. تؤكد الكاتبة الكورية هان كانغ بهذه الرواية الفاتنة، جدارتها الأدبية، وقدرتها على خلق عوالم من الجمال في عدد محدود من الصفحات، وبلغة أقرب إلى الشعر، وأيضًا تدفعنا إلى البحث عن دواخلنا لاستعادة ذواتنا أو انتزاع الحياة من الرماد. كما تؤكّد المعنى الخلّاق لفعل الكتابة ذاته، فالكتابة صارت لديها رديفًا للحياة. وفعل الكتابة كأنه بعث وخلق جديد، وقدرة على السّمو فوق الدمار الذي يحيط بنا، أو يسببه لنا أفراد.
مشاركة :